وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بيْنَ الناس، وهي نوعان:
مخلوقة لله تعالى، ومقدرة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا).
ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ.
فانظر هذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها نظير السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم بخلق زوجه منه، ثم بثّ منهما رجالاً كثيرا ونساء في غاية الكثرة.
وأما المائدة فقد تضمنت بيان تمام الشرائع، وتكملات الدين، والوفاء بعهود
الرسول، وما أخذ على الأمة، وبهما تم الدين، فهي سورة التكميل، لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد - ﷺ -، كالوضوء، والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإتمام والإكمال، وذكر فيها أن من ارتد عَوضَ الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملاً، ولهذا ورد فيها أنها آخر ما نزل، لما فيها من إشارات الختم والتمام.
وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب.
وقال أبو جعفر بن الزبير: حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على جمع
القرآن، ووضعوا سورة " القَدْر " عقِبَ " العَلَق "، استدلوا بذلك على أن المراد بذلك الكناية في قوله: (إنا أنزلناه في ليلةِ القَدْرِ) الإشارة إلى قوله اقْرَأ.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جداً.