وما أتيْتَ من الحسنات بغير إخلاص فقد قبلْتها منك، وما أكلت من رزقي ولم تشكرني فلم أَحرمك الزيادة، وما بارزتني به ولم تستح مني فأنا أستحي أن أعذِّبك بعد شهادتك لي بوَحْدانيتي، وأنا الغفور الرحيم.
فتأَمَّلْ أَيها العاصي هذه الكرامات التي أكرمك بها، دعاك أولاً بنفسه بقوله:
(واللَهُ يدعو إلى دار السلام)، من دارٍ أولها بكاء، وأوسطها عَناء، وآخرها فَناء، إلى دارِ أولها عطاء، وآخرها لقاء، وهي أحسن البنيان المسدس، فإن اللهَ خلقك مسَدَّساً! فخمسة منها يدعوك إلى خمس جهات واللَه سادسهم: يدعوك من تلك الجهات كلِّها إليه، فالأمَل يدعوك من بين يديك، والشيطان يدعوك من خَلْفك، والهوى يدعوك عن يسارك، والشهوة عن يمينك، والدنيا تَحْتَك! والله من فوقك، فذلك قوله: (ولا خمسة إلا هو سادِسهم).
فإن كانت همتك في دار الأشجار والبساتين والأنهار فقد دعاكَ لذلك
بقوله: (جنات عَدْن تجري مِنْ تحتها الأنهار).
وإن كانت همتك الطعام والشراب فقد دعاك لذلك بقوله: (كلوا واشْربوا).
(يُطَافُ عليهم بصِحافٍ مِنْ ذَهَب).
(ولَحْمِ طَيْرٍ مما يشتهون).
وإن كانت همتك التمتع بالنسوان فقد دعاك لذلك بقوله:
(وحورٍ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون)، لو تفلَتْ إحداهنّ على البحر لعَذب.
ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لأضاء ما فيها.
وإن كانت همتك اللباس فقد رغبك بقوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ).
وإن كانت همتكَ الغلمان والولدان فقد رَغبَك بقوله: (وِلْدَان مخَلَّذونَ).
(غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مَكْنون).
وإنْ كانت في الشرب والخمور فقد ذكر لكَ أنَّ فيها أنهاراً من خَمْرٍ لذة
للشاربين.
وإن كانت همتك رضاه والنظر إليه فقد دعاك في مواضع من كتابه.
وحرَّضكَ عليه، فما ظنّك بربٍّ كريم يدعوكَ للضيافة وتقبّل دعوته، أتراه لا
يرضيك، وقد بعث إليكَ الملائكة تبشِّرك حين نَزْعك، وأعطاك في حياتك