فإن قلت: ما فائدة تقديم القسط في آية النساء، وتأخيره في آية المائدة؟
والجواب آيات النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط، قال تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ).
وقال بعد: (ويستَفْتُونَكَ في النساء)، ثم قال: (وأنْ تَقُوموا لليتامى بالقِسْط)، وتوالت الآي بَعْدُ على هذا المعنى، فقدم القسط ليناسب ما ذكر.
وأما آية المائدة فذكر قبلها الأمر بالطهارة، ثم تذكيره سبحانه بتذكّر نعمته.
والوقوف مع ما عَهد به إلى عباده والأمر بتقواه، فناسب قوله: (كونوا قوّامين لله)، ثم اتبع لما بني على ذلك من الشهادة بالقسط.
فتأمل ما بني على هذه وما بني على آية النساء يتَّضح لك ما قلت.
(قال اتقُوا اللهَ إنْ كنْتُم مُؤمنين) :
هذا من قول عيسى للحواريين حين سألوه نزولَ المائدة، ويحتمل أن يكون زَجْراً لهم عن طلبها واقتراحِ الآيات.
ويحتمل أن يكون زَجْراً عن الشك الذي يقتضيه قولهم: (هل يستطيع رَبُّكَ) على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ، وإن لم يكن فيه شك.
وقوله: (إن كنتم مؤمنين) هو على ظاهره على مذْهب الزمخشري.
وأما على مذهب ابن عطية وغيره فهو تقرير لهم، كما نقول: افعل
كذا إن كنت رجلا.
ومعلوم أنه رجل.
وقيل إن هذه المقالة صدرت منهم في أول الأمر قبل أنْ يَروا معجزات عيسى.
(قالوا نرِيد أن نأْكُلَ منها).
أي أكلاً نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن.
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ).
أجابهم عيسى إلى سؤال المائِدَة من الله، فلبس جُبة شعر وقام يصلي
ويدعو ويبكي.
(قال اللهُ إني مُنَزِّلها عليكم) :
أجابه الله إلى ما طلب،