الإبل فيها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وصلة إلى العقدة التي جعل الله في صَدْرِها جامعةً للأعصاب، ومثلها في أعالي ظهورها، كلَّ ذلك زيادة في قواها، وحين أراد بها أن تكونَ سفائن البر صبرها على احتمال العطش حتى أن إضمارها ليرتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل شيء نابتٍ في البراري والمفاوِز مما لا يَرْعاه سائر الحيوان، فهي يسيرة المؤونة، ولذلك قال - ﷺ -: "الإبل عزّ لأهلها، والغَنم بركة، والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وكان لشريح القاضي يقول لأصحابه: اخرجوا بنا إلى الكنَاسة حتى نَنْطر
إلى الإبل كيف خلقت.
قال القرافي في فروقه:
اعلم أنَّ النواهي تعتمد الفاسد، كما أنَّ الأوامر تعتمد المصالح، فما حرَّم الله تعالى شيئاً إلا لمفسدة، وما أمر بشيء إلا لمصلحة تحصل مِنْ تناوله.
وقد أجْرى الله تعالى أن الأغذية تنقل الأخلاق لخلق الحيوان المغذى به حتى
يقال: إن العرب لما أكثرَتْ من لحوم الإبل حصل عندها فَرْط الإيثار بأقواتها، لأن ذلك شأن الإبل، فيجوع الجميع من الإبل الأيامَ الكثيرة، ثم يوضع لها ما تأكله مجتمعةً فيضع كل منها فَمَه فيتناول منها حاجَته من غير مدَافعة عن ذلك الحبّ، ولا يطرد مَنْ يأكل معه، ولا تزال الإبل تأكل علفها كذلك بالرفق حتى يفنى جميعاً من غير مدافعة بعضها بعضاً، بل معْرِضة عن ذلك، وعن مقدار ما أكله غيرها ممن يجاوِرها.
وغيرها من الحيوانات تَقْتَتل عند الأغذية على حَوْز الغذاء، وتمنع من يأكلها
معها أن يتناول شيئاً، وذلك مشاهدٌ في السباع والكلاب والأغنام وغيرها.
فانتقل ذلك لخلق الأعراب، فحصل عندهم من الإيثار للضيف ما لم يحصل
عند غيرهم من الأمم، كما أنه حصل عندهم أيضاً الْحِقْد، لأن الجملَ يأخذ
ثأرَه ممن آذاه بعد مدة طويلة، ولا يزول ذلك مِن خاطره حتى يقال: إن أربعاً أكلت أربعاً، فأورثهم أربعاً، أكلت العرب الإبل فأفادتها الكرم والحقد.