والجواب: أن المنَّةَ في آية البقرة وقعت من الله تعالى، لأنه قال فيها: (وإذ
نَجَّيْناكم من آل فِرْعون)، فأسند الفِعْلَ إلى نفسه، والملك كلّ
الأشياء عنده حقير، فلهذا أتى بالجملة الثانية غير معطوفة لتكونَ مفسِّرة للأولى وكأنهما شيء واحد، لأنه لا يَسْتَعْظِم الأشياء إلا مَنْ لا قدرةَ له، فالمائة دينار لا قَدْرَ لها عند الغني، وهي عند الفقير مال معتبر، وأما في هذه السورة فالمِنَّةُ فيها من موسى عليه السلام، لأن أولها: (وإذ قال موسى لقومه)، فناسب فيها المبالغةُ في العطف بالواو التي تقتضي المغايرةَ والتباين، لتكثر أسباب المنِّ.
وأجاب صاحب درة التنزيل بأنّ آيةَ إبراهيم وقعت في خبر عطف على خبر
آخر قبله: وهو قوله: (ولقد أرسلنا). - (وإذ قال موسى)، فتضمَّن الأول الإخبار عن إرسال موسى بالآيات، والثاني تنبيهه لقومه على نِعم الله، فيقوى معنى العطف (يذَبحون)، لأنه هو وما عطف عليه داخلٌ في جملة معطوفة على غيرها، فالمقام مقام الفصل، بخلاف آيةِ البقرة، فإنه أخبر فيها بخبر واحد، وهو إخباره عن نفسه بإنجاء بني إسرائيل، فلذلك لم يعطف، وأخبر في إبراهيم بخبرين معطوفين، فلذلك عطف، يريد والجملة
المتقدمة في سورة البقرة إنما هي طلبية، وهي قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)، والمشاكلة تقتضي الإخبارَ، وتُجرَى مَجْرًى
واحداً في الفصل والوصل، بخلاف الخبر والطلب، فإنه لا يعامل أحدهما معاملةَ الآخر، ألاَ ترى أنَّ المشهور عند النحويين أنه لا يجوز عطفُ الجملة الخبرية على الطلبية ولا العكس.
(وإذ تأذَّنَ ربُّكم) :
قيل أذَّنَ ربّك، ونظيره توعّد وأوعد، وتفضل وأفضل، ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ تأذن ربّكم إيذانا بليغاً ينفي عنه الشكوك، ولأجل أن تفعّل يقتضي التكلّف والمشقة حمله الزمخشري - والله أعلم - على أنَّ التضعيف للتأكيد والمبالغة في الإذن.