تفسير الاستعاذة
إِنَّ قَوْلَنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ/ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، أَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً: كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ مَوْصُوفُونَ بِالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ إِنَّ ضَلَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْفِرَقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِصِفَاتِهِ، وَبِأَحْكَامِهِ، وَبِأَفْعَالِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ، وَبِمَسَائِلِ الْجَبْرِ، والقدر، والتعديل، والتجويز، وَالثَّوَابِ، وَالْمَعَادِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْأَسْمَاءِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْإِمَامَةِ، فإذا وزعنا عدد الْفِرَقَ الضَّالَّةَ- وَهُوَ الِاثْنَتَانِ وَالسَّبْعُونَ- عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ بَلَغَ الْعَدَدُ الْحَاصِلُ مَبْلَغًا عَظِيمًا، وَكُلُّ ذَلِكَ أَنْوَاعُ الضَّلَالَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ، وَأَيْضًا فَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ فِرَقَ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَقْرُبُونَ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ، فَإِذَا ضُمَّتْ أَنْوَاعُ ضَلَالَاتِهِمْ إِلَى أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَالْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْكَامِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ بَلَغَ الْمَجْمُوعُ مَبْلَغًا عَظِيمًا فِي الْعَدَدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) يَتَنَاوَلُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ، وَإِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَاطِلًا وَقَبِيحًا، فَظَهَرَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ قَوْلَنَا: (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأُلُوفِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْحَقِيقِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْبَاطِلَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوْ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَوْ فِي الْقِيَاسَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ تَزِيدُ عَلَى الْأُلُوفِ، وَقَوْلُنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِهَا وَجُمْلَتِهَا، فَثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ قَوْلَنَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مُشْتَمِلٌ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ أَوْ أَزْيَدَ أَوْ أَقَلَّ مِنَ المسائل المهمة المعتبرة.