قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] أَيْ جَعَلْتُمْ لَهُنَّ قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَعَنَهُ اللَّه قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ حَظًّا مُقَدَّرًا مُعَيَّنًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ خُطُوَاتِهِ وَيَقْبَلُونَ وَسَاوِسَهُ، وَفِي التَّفْسِيرِ
عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ للَّه وَسَائِرُهُ لِلنَّاسِ وَلِإِبْلِيسَ».
فَإِنْ قِيلَ: النَّقْلُ وَالْعَقْلُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ حِزْبِ اللَّه.
أَمَّا النَّقْلُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ البشر فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: ٢٠] وَقَالَ حَاكِيًا عَنِ الشَّيْطَانِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٦٢]. وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: ٨٢، ٨٣] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُخْلَصِينَ قَلِيلُونَ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْفُسَّاقَ وَالْكُفَّارَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُسَّاقَ وَالْكُفَّارَ كُلَّهمْ حِزْبُ إِبْلِيسَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَعَ أَنَّ لَفْظَ النَّصِيبِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَ الْأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي نَوْعِ الشَّرِّ، أَمَّا إِذَا ضَمَمْتَ زُمْرَةَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ غَايَةِ كَثْرَتِهِمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَأَيْضًا فَالْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي الْعَدَدِ إِلَّا أَنَّ مَنْصِبَهُمْ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّه، وَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَإِنْ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْعَدَدِ فَهُمْ كَالْعَدَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ اسْمُ النَّصِيبِ عَلَى قَوْمِ إِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ يَعْنِي عَنِ الْحَقِّ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ أُصُولِنَا.
فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْمُضِلُّ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَلَيْسَ الْمُضِلُّ هُوَ اللَّه تَعَالَى قَالُوا: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضِلَّ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ ادَّعَى ذَلِكَ واللَّه تَعَالَى مَا كَذَّبَهُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا وَقَوْلُهُ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَافِ: ١٦] وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ مُضِلًّا لِلنَّاسِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْإِلَهِ/ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِضْلَالُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَقُلْنَا: لَيْسَ الْإِضْلَالُ عِبَارَةً عَنْ خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ إِبْلِيسَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ مُضِلٌّ مَعَ أَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الضَّلَالِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا كَلَامُ إِبْلِيسَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَأَيْضًا أَنَّ كَلَامَ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ جِدًّا، فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى الْقَدَرِ الْمَحْضِ، وَهُوَ قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَأُخْرَى إِلَى الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [القصص: ٣٩] وَتَارَةً يُظْهِرُ التَّرَدُّدَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَصِ: ٦٣] يَعْنِي أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: نَحْنُ أُغْوِينَا فَمَنِ الَّذِي أَغْوَانَا عَنِ الدِّينِ؟ وَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ الْكُلِّ بِالْآخِرَةِ إِلَى اللَّه. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ يُضِلُّ الْخَلْقَ قَالَ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي الْإِضْلَالِ أَقْوَى مِنْ إِلْقَاءِ الْأَمَانِيِّ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَطَلَبُ الْأَمَانِيِّ يُورِثُ شَيْئَيْنِ: الْحِرْصَ


الصفحة التالية
Icon