لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِمَا إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ التَّامُّ الْمُتَعَلِّقُ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ حَتَّى لَا يُشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَالْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ، فَدَلَّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَعَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ بِقَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ خَلِيلُهُ بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْخُلَّةِ عَبْدٌ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: ٩٣] ومجرى قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النِّسَاءِ: ١٧٢] يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كَمَالِهِمْ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لَمَّا لَمْ يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ مَعَ ضعف بشريته عن عبودية اللَّه؟ كذا هاهنا، يعني إذا كان كل من في السموات وَالْأَرْضِ مُلْكَهُ فِي تَسْخِيرِهِ وَنَفَاذِ/ إِلَهِيَّتِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اتِّخَاذَ اللَّه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلًا يُخْرِجُهُ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ مُتَنَاسِبَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ) لِأَنَّهُ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجِنْسِ، وَالَّذِي يَعْقِلُ إِذَا ذُكِّرَ وَأُرِيدَ بِهِ الجنس ذكر بما.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَاطَةُ فِي الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَاطَةُ بِالْقُدْرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [الْفَتْحِ: ٢١] قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي/ الْأَرْضِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نقول: إن قَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَا يُفِيدُ ظَاهِرُهُ إِلَّا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا مالكا لكل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى مَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُمَا وَمُغَايِرًا لَهُمَا، فَلَمَّا قَالَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ خَارِجًا عَنْ هَذِهِ السموات وَالْأَرْضِ، عَلَى أَنَّ سِلْسِلَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِنَّمَا تَنْقَطِعُ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِبْدَاعِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ وَالْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِنَّمَا يَحْصُلُ وَيَكْمُلُ بِمَجْمُوعِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا مَعًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ لِمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلْمَ باللَّه هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا، ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ قَادِرًا يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَالِمًا لِمَا أَنَّ الْفِعْلَ بِحُدُوثِهِ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٧]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّه فِي تَرْتِيبِ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَقَعَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهُوَ أَنَّهُ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُ آيَاتٍ كثيرة في الوعد والوعيد وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَيَخْلِطُ بِهَا آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى كِبْرِيَاءِ اللَّه وَجَلَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ إِلَهِيَّتِهِ. ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا أَحْسَنُ أَنْوَاعِ التَّرْتِيبِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّأْثِيرِ فِي القلوب،


الصفحة التالية
Icon