عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: قَوْلُهُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ صِيغَةُ عُمُومٍ، فَقَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مَعْنَاهُ مَنْ أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه، أَمَّا الْفَاسِقُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه إِلَّا فِي الْقَلِيلِ، وَهُوَ الْعَمَلُ، أَمَّا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ فَهُوَ مُوَافِقٌ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِيدًا مَخْصُوصًا بِمَنْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا الْوَعِيدُ الْيَهُودَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّه فِي الرَّجْمِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُ الْيَهُودَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي وَاقِعَةِ الرَّجْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ هَذَا الْجَوَابِ، وَالْخَامِسُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَجَحَدَ بِلِسَانِهِ، أَمَّا مَنْ عَرَفَ بِقَلْبِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه، إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُضَادُّهُ فَهُوَ حَاكِمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ تَارِكٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تعالى بيّن في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم، واليهود غيروه وبدلوه، وبيّن فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ غَيَّرُوا هَذَا الْحُكْمَ أَيْضًا، فَفَضَّلُوا بَنِي النَّضِيرِ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَخَصَّصُوا إِيجَابَ الْقَوْدِ بِبَنِي قُرَيْظَةَ دُونَ بَنِي النَّضِيرِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ مِنَ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: الْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ وَالسِّنُّ وَالْجُرُوحُ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ، وَفِيهِ/ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ أَنَّ النَّفْسَ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا النَّفْسُ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ مَعْنَى كَتَبْنَا قُلْنَا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكِتَابَةَ تَقَعُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ تَقُولُ: كَتَبْتُ (الْحَمْدُ للَّه) وَقَرَأْتُ (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا تَرْتَفِعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّ النَّفْسَ مَقْتُولَةٌ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ مَفْقُوءَةٌ بِالْعَيْنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [البقرة: ٦٢] وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِنَصْبِ الْكُلِّ سِوَى الْجُرُوحَ فَإِنَّهُ بِالرَّفْعِ، فَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ نُصِبَ عَطْفًا عَلَى النَّفْسِ، ثُمَّ الْجُرُوحَ مبتدأ، وقِصاصٌ خَبَرُهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ كُلَّهَا بِالنَّصْبِ عَطْفًا لِبَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ، وَخَبَرُ الْجَمِيعِ قِصَاصٌ، وَقَرَأَ نَافِعٌ الْأُذُنَ بِسُكُونِ الذَّالِ حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ مُثْقَلَةٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ وَفَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، يُرِيدُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ قَوْدٍ قِيدَ مِنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ دِيَةً فِي نَفْسٍ وَلَا جُرْحٍ، إِنَّمَا هُوَ الْعَفْوُ أَوِ الْقِصَاصُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْأَطْرَافُ فَكُلُّ شَخْصَيْنِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ إِذَا تَمَاثَلَا فِي السَّلَامَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ امْتَنَعَ أيضا في


الصفحة التالية
Icon