أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً
[الْبَقَرَةِ: ٦٧] وَلَمْ يَقُلْ: فَقَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلُعِنُوا بِما قالُوا قَالَ الْحَسَنُ: عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ، فَتَارَةً الْمَذْكُورُ هُوَ الْيَدُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْعَدَدِ. قَالَ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: ١٠] وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ للَّه تَعَالَى: مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ الْمَلْعُونِ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ الْأَيْدِي. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١].
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَفْسِيرِ يَدِ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: إِنَّهَا عُضْوٌ جُسْمَانِيٌّ كَمَا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٩٥] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَحَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ لِأَجْلِ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ للَّه هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَهُ قَالُوا وَأَيْضًا اسْمُ الْيَدِ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْعُضْوِ، فَحَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ تَرْكٌ لِلُّغَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُمَا مُحْدَثَانِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُتَنَاهٍ فِي الْمِقْدَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْمِقْدَارِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَابِلًا لِلتَّرْكِيبِ وَالِانْحِلَالِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى مَا يُرَكِّبُهُ وَيُؤَلِّفُهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ تَعَالَى جِسْمًا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ عضوا جسمانيا.
وأما جُمْهُورُ الْمُوَحِّدِينَ فَلَهُمْ فِي لَفْظِ الْيَدِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ لَمَّا دَلَّ/ عَلَى إِثْبَاتِ الْيَدِ للَّه تَعَالَى آمَنَّا بِهِ، وَالْعَقْلُ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُ اللَّه عِبَارَةً عَنْ جِسْمٍ مَخْصُوصٍ وَعُضْوٍ مُرَكَّبٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ آمَنَّا بِهِ، فَأَمَّا أَنَّ الْيَدَ مَا هِيَ وَمَا حَقِيقَتُهَا فَقَدْ فَوَّضْنَا مَعْرِفَتَهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ.
وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: الْيَدُ تُذْكَرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْجَارِحَةُ وهو معلوم، وثانيها: النعمة، تقول: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ أَشْكُرُهُ عَلَيْهَا، وَثَالِثُهَا: الْقُوَّةُ قَالَ تَعَالَى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص: ٤٥] فَسَّرُوهُ بِذَوِي الْقُوَى وَالْعُقُولِ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَدَ لَكَ بِهَذَا، وَالْمَعْنَى سَلْبُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَرَابِعُهَا:
الْمِلْكُ، يُقَالُ: هَذِهِ الضَّيْعَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ، أَيْ فِي مِلْكِهِ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] أَيْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَخَامِسُهَا: شِدَّةُ الْعِنَايَةِ وَالِاخْتِصَاصِ. قَالَ تَعَالَى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] وَالْمُرَادُ تَخْصِيصُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَيُقَالُ: يَدِي لَكَ رَهْنٌ بِالْوَفَاءِ إِذَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْيَدُ فِي حَقِّ اللَّه يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَعَانِي فكلها حاصلة.


الصفحة التالية
Icon