وَيُلَاطِفُهُ أُخْرَى طَلَبًا لِصَلَاحِهِ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ، لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْفَرَحِ وَالْبَطَرِ مِنْ غَيْرِ انْتِدَابٍ لِشُكْرٍ وَلَا إِقْدَامٍ عَلَى اعْتِذَارٍ وَتَوْبَةٍ، فَلَا جَرَمَ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ مَعْنَاهُ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ مُغْلَقًا عَنْهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا أَيْ حَتَّى إِذَا ظَنُّوا أن الذي نزل بهم من البأساء والضراء مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِقَامِ مِنَ اللَّه. وَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ قَسَتْ وَمَاتَتْ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهَا انْتِبَاهٌ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، لَا جَرَمَ فَاجَأَهُمُ اللَّه بِالْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَ الْحَسَنُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكْرٌ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ،
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يُعْطِي عَلَى الْمَعَاصِي فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَإِنَّمَا أُخِذُوا فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالرَّاحَةِ لِيَكُونَ أَشَدَّ لِتَحَسُّرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ حَالِ السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ وَقَوْلُهُ فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُبْلِسُ الَّذِي انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّذِي سَكَتَ عِنْدَ انْقِطَاعِ حُجَّتِهِ قَدْ أَبْلَسَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُبْلِسُ الشَّدِيدُ الْحَسْرَةِ الْحَزِينُ، وَالْإِبْلَاسُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ عِنْدَ وُرُودِ الْهَلَكَةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَيْرَةِ بِمَا يَرِدُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْبَلِيَّةِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الدَّابِرُ التَّابِعُ لِلشَّيْءِ مِنْ خَلْفِهِ كَالْوَلَدِ لِلْوَالِدِ يُقَالُ: دَبَرَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دُبُورًا وَدَبَرًا إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
| فَاسْتُؤْصِلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ | فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا |
أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى وُجُودِ إِنْعَامِ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي أَنْ كَلَّفَهُمْ وَأَزَالَ الْعُذْرَ وَالْعِلَّةَ عَنْهُمْ وَدَبَّرَهُمْ بِكُلِّ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ فِي التَّدْبِيرِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ أَخْذَهُمْ أَوَّلًا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَأَمْهَلَهُمْ وَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا انْهِمَاكًا فِي الْغَيِّ وَالْكُفْرِ، أَفْنَاهُمُ اللَّه وَطَهَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ مِنْ شَرِّهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَلَى تلك النعم الكثيرة المتقدمة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٦]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الْمُخْتَارِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ هُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقَلْبُ فَالْأُذُنُ مَحَلُّ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَالْعَيْنُ محل القوة