الْمَعْقُولَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَالنَّادِرِ وَقَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَادِرٌ جِدًّا. وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَهَهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِذَا أَرَادَ إِيصَالَهَا إِلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ذَكَرَ لَهَا مِثَالًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ بِمُعَاوَنَةِ هَذَا الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها/ إِلَّا هُوَ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْقُولَ الْكُلِّيَّ الْمُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقَالَ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ مَعْلُومَاتِ اللَّه هُوَ جَمِيعُ دَوَابِّ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، وَالْحِسُّ، وَالْخَيَالُ قَدْ وَقَفَ عَلَى عَظَمَةِ أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذَا الْمَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ.
وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْبَرِّ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ. وَأَمَّا الْبَحْرُ فَإِحَاطَةُ الْعَقْلِ بِأَحْوَالِهِ أَقَلُّ إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجَائِبَ الْبِحَارِ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ وَطُولَهَا وَعَرْضَهَا أَعْظَمُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْجَبُ. فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْخَيَالُ صُورَةَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ. ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ مَجْمُوعَهَا قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَيَصِيرُ هَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ مُقَوِّيًا وَمُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بِذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ مَا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ كَمْ فِيهَا مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُ وَرَقَةٍ إِلَّا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهَا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرٍ أَشَدَّ هَيْئَةً مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ وَظُلُمَاتُ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يَبْقَى أَكْبَرُ الْأَجْسَامِ وَأَعْظَمُهَا مَخْفِيًّا فِيهَا فَإِذَا سَمِعَ أَنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ عَلَى اتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ، صَارَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَلَالَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهَا وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْكَارُ وَالْأَلْبَابُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَبَادِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَوَّى أَمْرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمَحْضِ الْمُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ فَبَعْدَ ذِكْرِهَا عَادَ إِلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَهَذَا مَا عَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ. وَمِنَ اللَّه التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى فَاعِلُ الْعَالَمِ بِجَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا وَالْحُكَمَاءُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْأَثَرِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّهَا:
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَدَلَّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّةِ وَذَلِكَ/ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْأَثَرِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَزَمَانِيَّةٌ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.