مِنَ الْخَوْفِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَيْفَ تَحْدُثُ الْأَحْوَالُ فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْعَقْلِ لِلْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَضَارِّ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآلَامِ النَّفْسَانِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الْقَوِيَّةِ. وَأَمَّا اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، لِأَنَّ السِّرْقِينَ فِي مَذَاقِ الْجُعْلِ طَيِّبٌ، كَمَا أَنَّ اللَّوْزِينْجَ فِي مَذَاقِ الْإِنْسَانِ طَيِّبٌ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْإِنْسَانِ مَعَادٌ بِهِ تَكْمُلُ حَالَتُهُ وَتَظْهَرُ سَعَادَتُهُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَالُ الْعَقْلِ، سَبَبًا لِمَزِيدِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ مِنْ غَيْرِ جَابِرٍ يَجْبُرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ وَالشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْلَا حُصُولُ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ أَخَسَّ الْحَيَوَانَاتِ حَتَّى الْخَنَافِسِ وَالدِّيدَانِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا قَطْعًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَأَنَّهُ بِعَقْلِهِ يَكْتَسِبُ مُوجِبَاتِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْعَقْلُ شَرِيفًا.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ النِّعَمِ إِلَى عَبِيدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ النِّعَمُ مَشُوبَةً بِالْآفَاتِ وَالْأَحْزَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً عَنْهَا، فَلَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَجَبَ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْنَا بِالْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ فِي دَارٍ أُخْرَى، إِظْهَارًا لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، فَهُنَاكَ يُنْعِمُ عَلَى الْمُطِيعِينَ وَيَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَيُزِيلُ الْغُمُومَ وَالْهُمُومَ وَالشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ، وَيُقَرِّرُ هَذَا الْكَلَامَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَ كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، كَانَ فِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ وَأَشَدِّهَا عُفُونَةً وَفَسَادًا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ كَانَتِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَطْيَبَ وَأَشْرَفَ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى، ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُوضَعُ فِي الْمَهْدِ وَيُشَدُّ شَدًّا وَثِيقًا، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يَخْرُجُ مِنَ الْمَهْدِ وَيَعْدُو يَمِينًا وَشِمَالًا، وَيَنْتَقِلُ مِنْ تَنَاوُلِ اللَّبَنِ إِلَى تَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا أَطْيَبُ مِنَ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ حِينٍ يَصِيرُ أَمِيرًا نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَى الْخَلْقِ، أَوْ عَالِمًا مُشْرِفًا عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّابِعَةَ أَطْيَبُ وَأَشْرَفُ مِنَ الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ بِحُكْمِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ أَنْ يُقَالَ: الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ تَكُونُ أَشْرَفَ وَأَعْلَى وَأَبْهَجَ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ وَالْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: طَرِيقَةُ الِاحْتِيَاطِ، فَإِنَّا إِذَا آمَنَّا بِالْمَعَادِ وَتَأَهَّبْنَا لَهُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَذْهَبُ حَقًّا، فَقَدْ نَجَوْنَا وَهَلَكَ الْمُنْكِرُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا، لَمْ يَضُرَّنَا هَذَا الِاعْتِقَادُ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَفُوتُنَا هَذِهِ اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُبَالِيَ بِفَوْتِهَا لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكٌ فِيهَا بَيْنَ الْخَنَافِسِ وَالدِّيدَانِ وَالْكِلَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ سَرِيعَةُ الزَّوَالُ فَثَبَتَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ إِلَّا فِي الْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:

قَالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا لَا تُحْشَرُ الْأَمْوَاتُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا
إِنْ صح لكما فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَوَانَ مَا دَامَ يَكُونُ حَيَوَانًا، فَإِنَّهُ إِنْ قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِثْلُ ظُفْرٍ أَوْ ظِلْفٍ أَوْ شَعْرٍ، فَإِنَّهُ يَعُودُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَإِنْ جُرِحَ انْدَمَلَ، وَيَكُونُ الدَّمُ جَارِيًا فِي عُرُوقِهِ وَأَعْضَائِهِ جَرَيَانَ الْمَاءِ فِي عُرُوقِ الشَّجَرِ وَأَغْصَانِهِ، ثُمَّ إِذَا مَاتَ انْقَلَبَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ ظُفْرِهِ لَمْ يَنْبُتْ، وَإِنْ جُرِحَ لَمْ يَنْدَمِلْ وَلَمْ يَلْتَحِمْ، وَرَأَيْتَ الدَّمَ يَتَجَمَّدُ فِي عُرُوقِهِ، ثُمَّ بِالْآخِرَةِ يَؤُولُ حَالُهُ إِلَى الْفَسَادِ وَالِانْحِلَالِ ثُمَّ إِنَّا لَمَّا نَظَرْنَا إلى


الصفحة التالية
Icon