الْأَلْوَانِ الْمُمْكِنَةِ فِي الزِّينَةِ مِنْ حُمْرَةٍ وَخُضْرَةٍ وَصُفْرَةٍ وَذَهَبِيَّةٍ وَبَيَاضٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى صَارَ الْبُسْتَانُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ الْمَالِكُ وَيَعْظُمُ رَجَاؤُهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَيَصِيرُ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَى هَذَا الْبُسْتَانِ الْعَجِيبِ آفَةً عَظِيمَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ مِنْ بَرْدٍ، أَوْ رِيحٍ أَوْ سَيْلٍ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ وَالزُّرُوعُ بَاطِلَةً هَالِكَةً كَأَنَّهَا مَا حَصَلَتِ الْبَتَّةَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعْظُمُ حَسْرَةُ مَالِكِ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ وَضَعَ قَلْبَهُ عَلَى لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، فَإِذَا فَاتَتْهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ يَعْظُمُ حُزْنُهُ وَتَلَهُّفُهُ عَلَيْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَشْبِيهَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذَا النَّبَاتِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لَخَّصَهَا الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَاقِبَةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي يُنْفِقُهَا الْمَرْءُ فِي بَابِ الدُّنْيَا كَعَاقِبَةِ هَذَا النَّبَاتِ الَّذِي حِينَ عَظُمَ الرَّجَاءُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالدُّنْيَا إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا قَلْبَهُ وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَامِ:
٤٤] خَاسِرُونَ الدُّنْيَا، وَقَدْ أَنْفَقُوا أَعْمَارَهُمْ فِيهَا، وَخَاسِرُونَ مِنَ الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إِلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّشْبِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَحْصُلْ لِذَلِكَ الزَّرْعِ عَاقِبَةٌ تُحْمَدُ، فَكَذَلِكَ الْمُغْتَرُّ بِالدُّنْيَا الْمُحِبُّ لَهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ عَاقِبَةٌ تُحْمَدُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: ٢٣] فَلَمَّا صَارَ سَعْيُ هَذَا الزَّرَّاعِ بَاطِلًا بِسَبَبِ حُدُوثِ الْأَسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ، فَكَذَلِكَ سَعْيُ الْمُغْتَرِّ بِالدُّنْيَا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَالِكَ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ لَمَّا عَمَرَهُ بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَكَدِّ الرُّوحِ، وَعَلَّقَ قَلْبَهُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِذَا حَدَثَ ذَلِكَ السَّبَبُ الْمُهْلِكُ، وَصَارَ الْعَنَاءُ الشَّدِيدُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ فِي الْمَاضِي سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّقَاءِ الشَّدِيدِ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحَسَرَاتِ فَكَذَلِكَ حَالُ مَنْ وَضَعَ قَلْبَهُ عَلَى الدُّنْيَا وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي تَحْصِيلِهَا، فَإِذَا مَاتَ، وَفَاتَهُ كُلُّ مَا نَالَ، صَارَ الْعَنَاءُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّقَاءِ الْعَظِيمِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: لَعَلَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى الزَّرْعَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى فِي التَّرْبِيَةِ، قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الزِّينَةِ وَالْحُسْنِ ثُمَّ يَعْرِضُ/ لِلْأَرْضِ الْمُتَزَيِّنَةِ بِهِ آفَةٌ، فَيَزُولُ ذَلِكَ الْحُسْنُ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ تَصِيرُ تِلْكَ الْأَرْضُ مَوْصُوفَةً بِتِلْكَ الزِّينَةِ مَرَّةً أُخْرَى فَذَكَرَ هَذَا الْمِثَالَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ الْأَحْيَاءِ فِي الْآخِرَةِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (الْمَثَلُ) : قَوْلٌ يُشَبَّهُ بِهِ حَالُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَثَلِ الصِّفَةَ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا صِفَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَازَّيَّنَتْ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي تَزَيَّنَتْ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ وَسُكِّنَتِ الزَّايُ فَاجْتُلِبَ لَهَا أَلِفُ الْوَصْلِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: فَادَّارَأْتُمْ [الْبَقَرَةِ: ٧٢] ادَّارَكُوا [الْأَعْرَافِ: ٣٨].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ قَادِرُونَ عَلَى حَصَادِهَا وَتَحْصِيلِ ثَمَرَاتِهَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ عَائِدًا إِلَى الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّهُ


الصفحة التالية
Icon