بِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَعَدَهُمْ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَاشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُقَوِّي حَالَهُمْ فِي هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ وَيَزِيدُهُمْ فِيهَا دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً،
وَنُقِلَ أَيْضًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ هُودًا عَلَيْهِ السلام إليهم وكذبوه وَحَبَسَ اللَّه عَنْهُمُ الْمَطَرَ سِنِينَ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ: إِنْ آمَنْتُمْ باللَّه أَحْيَا اللَّه بِلَادَكُمْ وَرَزَقَكُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرِّ وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ وَقَوْلُهُ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ فَفَسَّرُوا هَذِهِ الْقُوَّةَ بِالْمَالِ والولد، والشدة في الأعضاء، لأن كل ذلكم ما يَتَقَوَّى بِهِ الْإِنْسَانُ.
فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ الْكَلَامِ هُوَ أَنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَوِ اشْتَغَلْتُمْ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى لَانْفَتَحَتْ عَلَيْكُمْ أَبْوَابُ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ،
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ»
فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ بِسَبَبِ تَرْتِيبِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَاتِ، لِأَجْلِ تَرْتِيبِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ بَلْ هُوَ طَرِيقٌ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا أَكْثَرَ التَّرْغِيبَ فِي السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَمْ يُبْعِدِ التَّرْغِيبَ أَيْضًا فِي خَيْرِ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ فَمَعْنَاهُ: لَا تُعْرِضُوا عَنِّي وَعَمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَأُرَغِّبُكُمْ فِيهِ مُجْرِمِينَ أَيْ مُصِرِّينَ عَلَى إِجْرَامِكُمْ وَآثَامِكُمْ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ لِلْقَوْمِ، حَكَى أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ لَهُ وَهُوَ أَشْيَاءُ:
أَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أَيْ بِحُجَّةٍ، وَالْبَيِّنَةُ سُمِّيَتْ بَيِّنَةً لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ بِجَهْلِهِمْ أَنْكَرُوهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَا جَاءَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَهَذَا أَيْضًا رَكِيكٌ، لِأَنَّهُمْ/ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عِبَادَتُهَا وَتَرْكُهُمْ آلِهَتَهُمْ لَا يَكُونُ عَنْ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ بَلْ عَنْ حُكْمِ نَظَرِ الْعَقْلِ وَبَدِيهَةِ النفس. وثالثها: قوله: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِصْرَارِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْجُحُودِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يُقَالُ: اعْتَرَاهُ كَذَا إِذَا غَشِيَهُ وَأَصَابَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ شَتَمْتَ آلِهَتَنَا فَجَعَلَتْكَ مَجْنُونًا وَأَفْسَدَتْ عَقْلَكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ قَالَ: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ إلى قوله: وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: ٧١].