عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ أَتْبَعْكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهِ لَمْ أَزْدَدْ إِلَّا خُسْرَانًا فِي الدِّينِ فَأَصِيرَ مِنَ الهالكين الخاسرين.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
اعْلَمْ أَنَّ الْعَادَةَ فِيمَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ عِنْدَ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه ثُمَّ يُتْبِعَهُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَةَ وَأَمْرُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا كَانَ
يُرْوَى أَنَّ قَوْمَهُ خَرَجُوا فِي عِيدٍ لَهُمْ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَأَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَشَارُوا إِلَيْهَا نَاقَةً فَدَعَا صَالِحٌ رَبَّهُ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ كَمَا سَأَلُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ كَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي جَوْفِ الْجَبَلِ ثُمَّ شَقَّ عَنْهَا الْجَبَلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا حَامِلًا مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ، وَخَامِسُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ وَلِكُلِّ الْقَوْمِ شِرْبُ يَوْمٍ آخَرَ،
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهَا لَبَنٌ كَثِيرٌ يَكْفِي الْخَلْقَ الْعَظِيمَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُعْجِزٌ قَوِيٌّ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ كَانَتْ آيَةً وَمُعْجِزَةً، فَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُهُ.
ثُمَّ قَالَ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ عَنِ الْقَوْمِ مُؤْنَتَهَا، فَصَارَتْ مَعَ كَوْنِهَا آيَةً لَهُمْ تَنْفَعُهُمْ وَلَا تَضُرُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِلَبَنِهَا عَلَى مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ لَمَّا شَاهَدَ مِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ،
فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يُحِبُّ ظُهُورَ حُجَّةِ خَصْمِهِ، بل يسعى في إخفاءها وَإِبْطَالِهَا بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ يَخَافُ مِنْ إِقْدَامِهِمْ عَلَى قَتْلِهَا، فَلِهَذَا احْتَاطَ وَقَالَ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ وَتَوَعَّدَهُمْ إِنْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ، وَذَلِكَ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ لَهُمْ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ عَقَرُوهَا وَذَبَحُوهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَقَرُوهَا لِإِبْطَالِ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَنَّهَا ضَيَّقَتِ الشُّرْبَ عَلَى الْقَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمْ رَغِبُوا فِي شَحْمِهَا وَلَحْمِهَا، وَقَوْلُهُ: فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ يُرِيدُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ/ الْقَوْمَ عَقَرُوهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ: التَّلَذُّذُ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَلَاذِّ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَمَّا كَانَ التَّمَتُّعُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْحَيِّ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَقَوْلُهُ: فِي دارِكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّارِ الْبَلَدُ، وَتُسَمَّى الْبِلَادُ بِالدِّيَارِ، لِأَنَّهُ يُدَارُ فِيهَا أَيْ يُتَصَرَّفُ يُقَالُ: دِيَارُ بَكْرٍ أَيْ بِلَادُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّيَارِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذب وَالْمَصْدَرُ قَدْ يَرِدُ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ كَالْمَجْلُودِ وَالْمَعْقُولِ وبأيكم الْمَفْتُونُ، وَقِيلَ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ،
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمْهَلَهُمْ تِلْكَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ فَقَدْ رَغَّبَهُمْ فِي الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ أَنْذَرَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ، فَقَالُوا وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: تَصِيرُ وُجُوهُكُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مُصْفَرَّةً، وَفِي الثَّانِي مُحْمَرَّةً، وَفِي الثَّالِثِ مُسْوَدَّةً، ثُمَّ يَأْتِيكُمُ الْعَذَابُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ،