عَلَيْكُمْ فَيُعَرِّي قَوْلَهُ: سَلَامٌ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ والتنوين، والسبب في ذلك كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ أَبَاحَ هَذَا التَّخْفِيفَ، واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قَالُوا: مَكَثَ إِبْرَاهِيمُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يَأْتِيهِ ضَيْفٌ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ فَرَأَى أَضْيَافًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُمْ، فَعَجَّلَ وَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَقَوْلُهُ: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ معناه: فلما لَبِثَ فِي الْمَجِيءِ بِهِ بَلْ عَجَّلَ فِيهِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَمَا لَبِثَ مَجِيئُهُ وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. أَمَّا الْحَنِيذُ: فَهُوَ الَّذِي يُشْوَى فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَحْنُوذٌ فِي الْأَصْلِ كَمَا قِيلَ: طَبِيخٌ وَمَطْبُوخٌ، وَقِيلَ: الْحَنِيذُ الَّذِي يَقْطُرُ دَسَمُهُ. يُقَالُ: حَنَذَتِ الْفَرَسُ إِذَا أَلْقَيْتَ عَلَيْهِ الْجُلَّ حَتَّى تَقْطُرَ عَرَقًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى قوله إِلى قَوْمِ لُوطٍ أَيْ إِلَى الْعِجْلِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَى الطَّعَامِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْعِجْلُ نَكِرَهُمْ أَيْ أَنْكَرَهُمْ. يُقَالُ: نَكِرَهُ وَأَنْكَرَهُ وَاسْتَنْكَرَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَضْيَافَ إِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنَ الطَّعَامِ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا أَتَوْهُ فِي صُورَةِ الْأَضْيَافِ لِيَكُونُوا عَلَى صِفَةٍ يُحِبُّهَا، وَهُوَ كَانَ مَشْغُوفًا بِالضِّيَافَةِ. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَسَبَبُ خَوْفِهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ فِي طَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ بَعِيدٍ عَنِ النَّاسِ، فَلَمَّا امْتَنَعُوا مِنَ الْأَكْلِ خَافَ أن يريدوا به مكروها، وثانيها: أَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِذَا حَضَرَ وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَإِنْ أَكَلَ حَصَلَ الْأَمْنُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ حَصَلَ الْخَوْفُ. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه تَعَالَى، / فَسَبَبُ خَوْفِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا أَمْرَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِأَمْرٍ أَنْكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُمْ لِتَعْذِيبِ قَوْمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ أَقْرَبُ وَأَظْهَرُ؟
قُلْنَا: أَمَّا الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ مَا عَرَفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه تَعَالَى فَلَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَسَارَعَ إِلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ، وَلَوْ عَرَفَ كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا رَآهُمْ مُمْتَنِعِينَ مِنَ الْأَكْلِ خَافَهُمْ، وَلَوْ عَرَفَ كَوْنَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا اسْتَدَلَّ بِتَرْكِ الْأَكْلِ عَلَى حُصُولِ الشَّرِّ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رَآهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا لِمَنْ عَرَفَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْ بِأَيِّ سَبَبٍ أُرْسِلُوا، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَزَالُوا ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْهُ فَقَالُوا: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَمَعْنَاهُ: أُرْسِلْنَا بِالْعَذَابِ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، لِأَنَّهُ أَضْمَرَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً [الذَّارِيَاتِ: ٣٢، ٣٣].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ يَعْنِي سَارَّةَ بِنْتَ آزَرَ بْنِ بَاحُورَا بِنْتَ عَمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ:
قائِمَةٌ قِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ تَسْتَمِعُ إِلَى الرُّسُلِ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا خَافَتْ أَيْضًا. وَقِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً تَخْدِمُ الْأَضْيَافَ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام جالس معهم، ويأكد هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وَهُوَ قَاعِدٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَاخْتَلَفُوا فِي الضَّحِكِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى