وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ
فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ مُجَادَلَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا كَانَتْ فِي قَوْمِ لُوطٍ بِسَبَبِ مُقَامِ لُوطٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى أَنْ تَلْحَقَهُمْ رَحْمَةُ اللَّه بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ رجاء أنهم أَقْدَمُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَرُبَّمَا وَقَعَتْ تِلْكَ الْمُجَادَلَاتُ/ بِسَبَبِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَ اللَّه وَرَدَ بِإِيصَالِ الْعَذَابِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بَلْ يَقْبَلُ التَّرَاخِيَ فَاصْبِرُوا مُدَّةً أُخْرَى، وَالْمَلَائِكَةُ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْبَلُ الْفَوْرَ، وَقَدْ حَصَلَتْ هُنَاكَ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُقَرِّرُ مَذْهَبَهُ بِالْوُجُوهِ الْمَعْلُومَةِ فَحَصَلَتِ الْمُجَادِلَةُ بِهَذَا السَّبَبِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ لَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَنْ لَفْظِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَكَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ هَلْ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْقَوْمِ أَمْ لَا فَحَصَلَتِ الْمُجَادَلَةُ بِسَبَبِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ نَرَى الْعُلَمَاءَ فِي زَمَانِنَا يُجَادِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ التَّمَسُّكِ بِالنُّصُوصِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ القدح في واحد منها فكذا هاهنا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وَهَذَا مَدْحٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ، أَمَّا الْحَلِيمُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَتَعَجَّلُ بِمُكَافَأَةِ غَيْرِهِ، بَلْ يَتَأَنَّى فِيهِ فَيُؤَخِّرُ وَيَعْفُو وَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ مِنْ غَيْرِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جِدَالَهُ كَانَ فِي أَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْحِلْمِ وَتَأْخِيرِ الْعِقَابِ، ثُمَّ ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحِلْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
أَوَّاهٌ مُنِيبٌ لِأَنَّ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْحِلْمَ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَتَأَوَّهُ إِذَا شَاهَدَ وُصُولَ الشَّدَائِدِ إِلَى الْغَيْرِ فَلَمَّا رَأَى مَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ عَظُمَ حُزْنُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَتَأَوَّهُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَوَصَفَهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُنِيبٌ، لِأَنَّ مَنْ ظَهَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشَّفَقَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يُنِيبُ وَيَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّه فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَوْ يُقَالُ: إِنَّ مَنْ كَانَ لَا يَرْضَى بِوُقُوعِ غَيْرِهِ فِي الشَّدَائِدِ فَأَنْ لَا يَرْضَى بِوُقُوعِ نَفْسِهِ فِيهَا كَانَ أَوْلَى وَلَا طَرِيقَ إِلَى صَوْنِ النَّفْسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَذَابِ اللَّه إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَوَجَبَ فِيمَنْ هذا شأنه يكون منيبا.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا لَهُ: اتْرُكْ هَذِهِ الْمُجَادَلَةَ لِأَنَّهُ/ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بِإِيصَالِ هَذَا الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ وَإِذَا لَاحَ وَجْهُ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ فَلِذَلِكَ أَمَرُوهُ بِتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ، وَلَمَّا ذَكَرُوا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِمَاذَا جَاءَ لَا جَرَمَ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، أَيْ عَذَابٌ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ وَرَدِّهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ هُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِالْوَلَدِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: انْطَلَقُوا مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى لُوطٍ وَبَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَرْبَعُ فَرَاسِخَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ عَلَى صُورَةِ شَبَابٍ مُرْدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَكَانُوا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَلَمْ يَعْرِفْ لُوطٌ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّه وَذَكَرُوا فِيهِ سِتَّةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَخَافَ عَلَيْهِمْ خُبْثَ قَوْمِهِ وَأَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ.