ثُمَّ قَالَ: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يَعْنِي بِهِ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْمِيهِمْ بِهَا.
عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: يَعْنِي عَنْ ظَالِمِي أُمَّتِكَ، مَا مِنْ ظَالِمٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُوَ بِمَعْرِضِ حَجَرٍ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى سَاعَةٍ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَما هِيَ لِلْقُرَى. أَيْ وَمَا تِلْكَ الْقُرَى الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا هَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ بِبَعِيدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرَى كَانَتْ فِي الشَّأْمِ، وهي قريب من مكة.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ السَّادِسَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَدِينَ اسْمُ ابْنٍ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَدْيَنَ اسْمُ مَدِينَةٍ بَنَاهَا مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَحُذِفَ الْأَهْلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَشْرَعُونَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَلِهَذَا قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ يَشْرَعُونَ فِي الْأَهَمِّ ثُمَّ الْأَهَمِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَادُ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ الْبَخْسَ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، دَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ هَذِهِ الْعَادَةِ فَقَالَ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وَالنَّقْصُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْإِيفَاءُ مِنْ قِبَلِهِمْ فَيَنْقُصُونَ مِنْ قَدْرِهِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الِاسْتِيفَاءُ فَيَأْخُذُونَ أَزْيَدَ مِنَ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ حَقِّ الْغَيْرِ، وَفِي الْقِسْمَيْنِ حَصَلَ النُّقْصَانُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَذَّرَهُمْ مِنْ غَلَاءِ السِّعْرِ وَزَوَالِ النِّعْمَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكُوا هَذَا التَّطْفِيفَ وَإِلَّا أَزَالَ اللَّه عَنْكُمْ مَا حَصَلَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَتَاكُمْ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْمَالِ وَالرُّخْصِ وَالسَّعَةِ فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى هَذَا التَّطْفِيفِ. ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَخَافُ أَيْ أَعْلَمُ حُصُولَ عَذَابِ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَقَالَ آخَرُونَ:
بَلِ الْمُرَادُ هُوَ الْخَوْفُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ الْعَذَابُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّخْوِيفُ قَائِمًا فَالْحَاصِلُ هُوَ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ يُحِيطُ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَالْمُحِيطُ مِنْ صِفَةِ الْيَوْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الْمَعْنَى مِنْ صِفَةِ الْعَذَابِ وَذَلِكَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ كَقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هُودٍ: ٧٧].
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَذَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي نُصِبَ لِإِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِالْمُعَذَّبِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ/ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْرَبُ دُخُولُ كُلِّ عَذَابٍ فِيهِ وَإِحَاطَةُ الْعَذَابِ بِهِمْ