المسألة الثَّانِيَةُ: رُبَّ حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَيَلْحَقُهَا «مَا» عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ:
رُبَّ مَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ | لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العقال |
يا رب من ينقص أزوادنا | رُحْنَ عَلَى نُقْصَانِهِ وَاغْتَدَيْنَ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رُبَّ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ، وَهِيَ فِي التَّقْلِيلِ نَظِيرَةُ كَمْ فِي التَّكْثِيرِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: رُبَّمَا زَارَنَا فُلَانٌ، دَلَّ رُبَّمَا عَلَى تَقْلِيلِهِ الزِّيَارَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ رُبَّ يَعْنِي بِهَا الْكَثْرَةَ، فَهُوَ ضِدُّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ تَمَنِّيَ/ الْكَافِرِ الْإِسْلَامَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وكلما رُبَّ تُفِيدُ الظَّنَّ، وَأَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ التَّمَنِّيَ يَكْثُرُ وَيَتَّصِلُ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ لَفْظَةُ رُبَما مَعَ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّقْلِيلَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّكْثِيرَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلتَّقْلِيلِ، وَإِذَا أَرَادُوا الْيَقِينَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلشَّكِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِظْهَارُ التَّوَقُّعِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْغَرَضِ، فَيَقُولُونَ: رُبَّمَا نَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ، وَلَعَلَّكَ تَنْدَمُ عَلَى فِعْلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِكَثْرَةِ النَّدَمِ وَوُجُودِهِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا التَّقْلِيلَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَكْفِيكَ قَلِيلُ النَّدَمِ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا عَنْ هَذَا الْفِعْلِ فَكَيْفَ كَثِيرُهُ؟
وَالوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَشْغَلَهُمُ الْعَذَابُ عَنْ تَمَنِّي ذَاكَ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ «رُبَّ» مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي كَمَا يُقَالُ: رُبَّمَا قَصَدَنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ