وَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْهَادِمُ لِأُصُولِ الِاعْتِزَالِ. وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ مُعَوِّلِينَ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهَدْمِ قَوَاعِدِهِمْ، وَلَقَدْ قَامُوا وَقَعَدُوا وَاحْتَالُوا عَلَى دَفْعِهِ فَمَا أَتَوْا بِشَيْءٍ مُقْنِعٍ، وَأَنَا أَذْكُرُ أَقْصَى مَا ذَكَرُوهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ مَانِعًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْمَقَامُ الثَّانِي: بَيَانُ الْجَوَابِ الْعَقْلِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَقَالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ لِأَحَدٍ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى [الْإِسْرَاءِ: ٩٤] وَهُوَ إِنْكَارٌ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَبَسَ آخَرَ فِي بَيْتٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ ثُمَّ يَقُولُ مَا مَنَعَكَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِي كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مُسْتَقْبَحًا وَكَذَا قَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [الْأَعْرَافِ: ١٢] وَقَوْلُهُ لِإِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [النِّسَاءِ: ٣٩] وَقَوْلُ مُوسَى لِأَخِيهِ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا [طه: ٩٢] وَقَوْلُهُ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الِانْشِقَاقِ: ٢٠] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٩] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣] لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: ١] قَالَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي فَصْلٍ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ: كَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ مَنَعَهُ عَنْهُ؟ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْكُفْرِ وَقَدْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَّى تُصْرَفُونَ؟ وَيَخْلُقُ فِيهِمُ الْإِفْكَ ثُمَّ يَقُولُ أَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ وَأَنْشَأَ فِيهِمُ الْكُفْرَ ثم يقوم لِمَ تَكْفُرُونَ؟ وَخَلَقَ فِيهِمْ لَبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ثُمَّ يَقُولُ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧١] وَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ثُمَّ يَقُولُ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٩] وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ ثُمَّ قَالَ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا وَذَهَبَ بِهِمْ عَنِ الرُّشْدِ ثُمَّ قَالَ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التَّكْوِيرِ: ٢٦] وَأَضَلَّهُمْ عَنِ الدِّينِ حَتَّى أَعْرَضُوا ثُمَّ قَالَ
: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. [الْمُدَّثِّرِ: ٤٩] وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: ١٦٥] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَبْقَى لَهُمْ عُذْرًا إِلَّا وَقَدْ أَزَالَهُ عَنْهُمْ، فَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِكُفْرِهِمْ وَخَبَرُهُ عَنْ كُفْرِهِمْ مَانِعًا لَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْذَارِ وَأَقْوَى الْوُجُوهِ الدَّافِعَةِ لِلْعِقَابِ عَنْهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ «حم السَّجْدَةِ» أَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ذَمًّا لَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ مَانِعًا لَكَانُوا صَادِقِينَ/ فِي ذَلِكَ فَلِمَ ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ؟ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ قَوْلَهُ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهِ ذَمًّا لَهُمْ وَزَجْرًا عَنِ الْكُفْرِ وَتَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، فَلَوْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنِ الْإِيمَانِ غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانُوا مَعْذُورِينَ كَمَا يَكُونُ الْأَعْمَى مَعْذُورًا فِي أَنْ لَا يَمْشِيَ. وَخَامِسُهَا:
الْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، لَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ وَالْخَبَرُ مَانِعًا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا عَلِمْتَ الْكُفْرَ وَأُخْبِرْتَ عَنْهُ كَانَ تَرْكُ الْكُفْرِ مُحَالًا مِنَّا، فَلِمَ تَطْلُبُ الْمُحَالَ مِنَّا وَلَمْ تَأْمُرْنَا بِالْمُحَالِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا جَوَابَ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ عَنْهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ يَمْنَعُ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الْأَنْفَالِ: ٤٠] وَلَوْ كَانَ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِيمَانِ كُلِّفَ بِهِ لَمَا كَانَ نِعْمَ الْمَوْلَى، بَلْ كَانَ بِئْسَ الْمَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ مَانِعٌ أَلْبَتَّةَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وَخَبَرَهُ عَنْ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَنِ الْإِيمَانِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: قَالُوا إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الْإِيمَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ


الصفحة التالية
Icon