كَمَالَ الْكُفْرِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ وَيُفَوِّضُوا مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ إِلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ وَيُزِيلُوا الِاعْتِرَاضَ بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النِّعْمَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّعَمِ الْعَامَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ أَبَانَا مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تَخْصِيصَ آدَمَ بِالْخِلَافَةِ أَوَّلًا ثُمَّ تَخْصِيصَهُ بِالْعِلْمِ الْكَثِيرِ ثَانِيًا ثُمَّ بُلُوغَهُ فِي الْعِلْمِ إِلَى أَنْ صَارَتِ الْمَلَائِكَةُ عَاجِزِينَ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَذَكَرَ الْآنَ كَوْنَهُ مسجوداً للملائكة، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ تَعَالَى خِلْقَةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: ٧١، ٧٢] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَارَ حَيًّا صَارَ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَقَعُوا لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ تَعْلِيمُ الْأَسْمَاءِ وَمُنَاظَرَتُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ حَصَلَ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجُودَ الْمَلَائِكَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ لِأَنَّ سُجُودَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَالْأَمْرُ لَا يَرِدُ بِالْكُفْرِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَالْقِبْلَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يُقَالُ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ بَلْ يُقَالُ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ فَلَوْ كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِبْلَةً لِذَلِكَ السُّجُودِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ اسْجُدُوا إِلَى آدَمَ فَلَمَّا لَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ هَكَذَا بَلْ قِيلَ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَلِمْنَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قِبْلَةً. الثَّانِي: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أَيْ أَنَّ كَوْنَهُ مَسْجُودًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ حَالًا مِنَ السَّاجِدِ وَلَوْ كَانَ قِبْلَةً لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ بِدَلِيلِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالشِّعْرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٨] وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ لَا لِلدُّلُوكِ.
فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صَلَّيْتُ لِلْقِبْلَةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلْقِبْلَةِ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُ حَسَّانَ:
مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الْأَمْرَ مُنْصَرِفٌ | عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ |
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ | وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ |
وَعَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ مَا هَذَا قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ تَسْجُدُ لِعُظَمَائِهَا/ وَعُلَمَائِهَا وَرَأَيْتُ النَّصَارَى تسجد لقسسها