هذا أخذا ورد عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَمُرَّ بِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ زَمَانًا طَوِيلًا فِي الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّخَوُّفَ هُوَ التَّنَقُّصُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ: تَخَوَّفْتُ الشَّيْءَ وَتَخَيَّفْتُهُ إِذَا تَنَقَّصْتَهُ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَسَكَتُوا فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَ شَاعِرُنَا وَأَنْشَدَ:

تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ لَا تَضِلُّوا، قَالُوا: وَمَا دِيوَانُنَا؟ قَالَ شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِ تَفْسِيرُ كِتَابِكُمْ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا التَّنَقُّصُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٤] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ إِلَى الْقُرَى الَّتِي تُجَاوِرُهُمْ حَتَّى يَخْلُصَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ يُهْلِكُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْقُصُ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَأْتِيَ الْفَنَاءُ عَلَى الْكُلِّ فَهَذَا تَفْسِيرُ هذا الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَهُمْ بِخَسْفٍ يَحْصُلُ فِي الْأَرْضِ أَوْ بِعَذَابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ بِآفَاتٍ تَحْدُثُ دَفْعَةً وَاحِدَةً حَالَ مَا لَا يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِعَلَامَاتِهَا وَدَلَائِلِهَا، أَوْ بِآفَاتٍ تَحْدُثُ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْهَلَاكُ عَلَى آخِرِهِمْ ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمر لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ إلى قوله وَهُمْ داخِرُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْعَذَابِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَتَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، لِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ مَعَ كَمَالِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ، وَالْقُوَّةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَوَلَمْ تَرَوْا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ:
أَوَلَمْ تروا كيف يبدي اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٩] بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا كِنَايَةً عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَيْضًا أَنَّ مَا قَبْلَهُ غَيْبَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ... أَوْ يَأْخُذَهُمْ [النَّحْلِ: ٤٥، ٤٦] فَكَذَا قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا وقرأ أبو عمرو وحده: تتفيؤا بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ عَلَى الْجَمْعِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ لَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ هاهنا بِمَعْنَى النَّظَرِ وُصِلَتْ بِإِلَى، لِأَنَّ


الصفحة التالية
Icon