أَبْوَابُ الدُّنْيَا، وَكُلُّ شَيْءٍ خَطَرَ بِبَالِهِ وَدَارَ فِي خَيَالِهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبُ جَهْدَ الْإِنْسَانِ وَعَقْلَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْقَلُ أَفْضَلَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ الْأَعْقَلَ أَقَلُّ نَصِيبًا، وَأَنَّ الْأَجْهَلَ الْأَخَسَّ أَوْفَرُ نَصِيبًا، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ قِسْمَةِ الْقَسَّامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
[الزُّخْرُفِ: ٣٢] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ | بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ |
أما قوله: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالنُّحُوسَةَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوَالِيَ وَالْمَمَالِيكَ أَنَا رَازِقُهُمْ جَمِيعًا فَهُمْ فِي رِزْقِي سَوَاءٌ فَلَا يَحْسَبَنَّ الْمَوَالِي أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مماليكهم من عنده شيئا من الرزق، وإنما ذلك رِزْقِي أَجْرَيْتُهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ.
وَحَاصِلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَرْزُقُ الْعَبْدَ بَلِ الرَّازِقُ لِلْعَبْدِ وَالْمَوْلَى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَكْمَلَ عَقْلًا وَأَقْوَى جِسْمًا وَأَكْثَرَ وُقُوفًا عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مِنَ الْمَوْلَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِلَّةَ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَعِزَّةَ ذَلِكَ الْمَوْلَى من الله تعالى كما قال: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٦].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا رَدًّا عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الْمُلُوكَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ، فَجَعَلَ الْمَمْلُوكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُلْكٍ مَعَ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا لَمْ تَجْعَلُوا عَبِيدَكُمْ مَعَكُمْ سَوَاءً فِي الْمُلْكِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ مَعِي سَوَاءً فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ابْنُ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تُشْرِكُونَ عَبِيدَكُمْ فِيمَا مَلَكْتُمْ فَتَكُونُوا سَوَاءً، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ عَبْدِي وَلَدًا لِي وَشَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ؟
ثم قال تَعَالَى: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ حَتَّى، وَالْمَعْنَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِجَاعِلِي رِزْقِهِمْ لِعَبِيدِهِمْ، حَتَّى تَكُونَ عَبِيدُهُمْ فِيهِ مَعَهُمْ سَوَاءً فِي الْمُلْكِ.
ثم قال: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بكر: يَجْحَدُونَ بالتاء على الخطاب لقوله: خَلَقَكُمْ وفَضَّلَ