قُلْنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَحُرًّا ورزقناه لِيُطَابِقَ عَبْدًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: يَسْتَوُونَ عَلَى الْجَمْعِ؟
قُلْنَا: مَعْنَاهُ هَلْ يَسْتَوِي الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ. ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَالثَّانِي: الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَمْدِ لِلْأَصْنَامِ، لِأَنَّهَا لَا نِعْمَةَ لَهَا عَلَى أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ لِلْأَصْنَامِ. الثَّالِثُ:
قَالَ الْقَاضِي فِي «التفسير» : قال الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ مَيَّزَهُ فِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ عَنْ ذَلِكَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ. الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ، وَكَانَ هَذَا مَثَلًا مُطَابِقًا لِلْغَرَضِ كَاشِفًا عَنِ الْمَقْصُودِ قَالَ بَعْدَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَعْنِي الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى قُوَّةِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ. ثم قال:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّهَا مَعَ غَايَةِ ظُهُورِهَا وَنِهَايَةِ وُضُوحِهَا لَا يَعْلَمُهَا ولا يفهمها هؤلاء الضلال.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ بِهَذَا الْمَثَلِ الثَّانِي، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَائِلِ الْعُقُولِ أَنَّ الْأَبْكَمَ الْعَاجِزَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ لِلنَّاطِقِ الْقَادِرِ الْكَامِلِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلَأَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْجَمَادَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ نَقُولُ: فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرَّجُلَ الْأَوَّلَ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: الْأَبْكَمُ وَفِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالٌ نَقَلَهَا الْوَاحِدِيُّ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ أَبْكَمُ، وَهُوَ الْعَيِيُّ الْمُقْحَمُ، وَقَدْ بَكِمَ بَكَمًا وَبَكَامَةً، وَقَالَ أَيْضًا: الْأَبْكَمُ الْأَقْطَعُ اللِّسَانِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ. الثَّانِي: رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَبْكَمُ الْمُطْبَقُ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَجْزِ التَّامِّ وَالنُّقْصَانِ الْكَامِلِ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْ هَذَا الْأَبْكَمُ الْعَاجِزُ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَصْلُهُ مِنَ الْغِلَظِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْحِدَّةِ. يُقَالُ: كَلَّ السِّكِّينُ إِذَا غَلُظَتْ شَفْرَتُهُ فَلَمْ يَقْطَعْ، وَكَلَّ لِسَانُهُ إِذَا غَلُظَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ، وَكَلَّ فُلَانٌ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْبَعِثْ فِيهِ. فَقَوْلُهُ: كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْ غَلِيظٌ وَثَقِيلٌ على مولاه.
الصفة الرابعة: قوله: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ أَيْ أَيْنَمَا يُرْسِلْهُ، وَمَعْنَى التَّوْجِيهِ أَنْ تُرْسِلَ صَاحِبَكَ فِي وَجْهٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الطَّرِيقِ. يُقَالُ: وَجَّهْتُهُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ لَا يُحْسِنُ وَلَا يَفْهَمُ. ثم قال تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أَيْ هَذَا الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْآمِرَ بِالْعَدْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالنُّطْقِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ آمِرًا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا، لِأَنَّ الْأَمْرَ مشعر بعلو الْمَرْتَبَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا حَتَّى يُمْكِنُهُ التمييز بين


الصفحة التالية
Icon