الْمُحِقَّ إِذَا شَاهَدَ تِلْكَ السَّفَاهَاتِ، وَسَمِعَ تِلْكَ الْمُشَاغَبَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْمِلَهُ طَبْعُهُ عَلَى تَأْدِيبِ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ تَارَةً بِالْقَتْلِ وَتَارَةً بِالضَّرْبِ، فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ الْمُحِقِّينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِرِعَايَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَتَرْكِ الزِّيَادَةِ، فَهَذَا هُوَ الوجه الصَّحِيحُ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَقْدَحُونَ فِيمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَ الْعَزْمَ عَلَى الْمُثْلَةِ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآيَةِ؟
قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَدْحِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: تِلْكَ الْوَاقِعَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا الَّذِي يُنَازَعُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ سُوءَ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِرِعَايَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ يَعْنِي إِنْ رَغِبْتُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَاقْنَعُوا بِالْمِثْلِ وَلَا تَزِيدُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ ظُلْمٌ وَالظُّلْمُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَفِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِلْمَرِيضِ: إِنْ كُنْتَ تَأْكُلُ الْفَاكِهَةَ فَكُلِ التُّفَّاحَ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَوْلَى بِكَ أَنْ لَا تَأْكُلَهُ، فَذَكَرَ تَعَالَى بِطَرِيقِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْتِقَالُ مِنَ التَّعْرِيضِ إِلَى التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ الِانْتِقَامِ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْإِنْفَاعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِيلَامِ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْجَزْمِ بِالتَّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ لِأَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ذَكَرَ أَنَّ التَّرْكَ خَيْرٌ وَأَوْلَى، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَاقًّا شَدِيدًا ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يُفِيدُ سُهُولَتَهُ فَقَالَ: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ بِتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْكُلِّيُّ الْأَصْلِيُّ الْمُفِيدُ فِي حُصُولِ الصَّبْرِ وَفِي حُصُولِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا السَّبَبَ الْكُلِّيَّ الْأَصْلِيَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ السَّبَبُ الْجُزْئِيُّ الْقَرِيبُ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَعَلَى إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ هَيَجَانِ الْغَضَبِ، وَشِدَّةُ الْغَضَبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: فَوَاتُ نَفْعٍ كَانَ حَاصِلًا فِي الْمَاضِي وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَمَعْنَاهُ لَا تَحْزَنْ بِسَبَبِ فَوْتِ أُولَئِكَ الْأَصْدِقَاءِ. وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى فَوْتِ النَّفْعِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي:
لِشِدَّةِ الْغَضَبِ تَوَقُّعُ ضَرَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَلَامٌ أَدْخَلُ فِي الْحُسْنِ وَالضَّبْطِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَقِيَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
البحث الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَفِي النَّمْلِ مِثْلُهُ، وَالْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الْحَرْفَيْنِ. أَمَّا الوجه فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فَأُمُورٌ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَالْمَسَاكِنِ، وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الضَّيْقُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ وَالضَّيْقُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْغَمُّ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ:
ضَيْقٌ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّهُ تَصِحُّ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ.
البحث الثَّانِي: قُرِئَ: وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ.


الصفحة التالية
Icon