سُلْطانٌ
[الإسراء: ٦٥] فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ ظَنَّ إِبْلِيسُ هَذَا الظَّنَّ الصَّادِقَ بِذُرِّيَّةِ آدَمَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمِعَ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] فَعَرَفَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَى آدَمَ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ عَزْمًا «١» فَقَالَ الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْلَادَهُ يَكُونُونَ مِثْلَهُ فِي ضَعْفِ الْعَزْمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قُوَّةٍ بَهِيمِيَّةٍ شَهْوَانِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ سَبُعِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ وَهْمِيَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ عَقْلِيَّةٍ مَلَكِيَّةٍ، وَعَرَفَ أَنَّ الْقُوَى الثَّلَاثَ أَعْنِي الشَّهْوَانِيَّةَ وَالْغَضَبِيَّةَ وَالْوَهْمِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْمُسْتَوْلِيَةُ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ إِنَّمَا تَكْمُلُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مَا ذَكَرَهُ إِبْلِيسُ لَازِمًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْلِيسَ ذَلِكَ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ اذْهَبْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الذَّهَابِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمَجِيءِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ، وَالْمَقْصُودُ التَّخْلِيَةُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ [طه: ٩٧] فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُهُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. لِيَكُونَ هَذَا الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ؟. قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُهُمْ وَجَزَاؤُكُمْ ثُمَّ غُلِّبَ الْمُخَاطَبُ عَلَى الْغَائِبِ فَقِيلَ جَزَاؤُكُمْ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ مَعَ الْغَائِبِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجَدُ فَيَحْصُلُ لِإِبْلِيسَ مِثْلُ وِزْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ.
فَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ هُوَ الْأَصْلَ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي صَارَ الْمُخَاطَبُ بِالْوَعِيدِ هُوَ إِبْلِيسُ، ثُمَّ قَالَ: جَزاءً مَوْفُوراً وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ تَجِيءُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا، أَمَّا الْمُتَعَدِّي فَيُقَالُ: وفرته أفره وفرا [و] وَفِرَةً فَهُوَ مَوْفُورٌ [وَ] مُوَفَّرٌ، قَالَ زُهَيْرٌ:

وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ يَفِرْهُ وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
وَاللَّازِمُ كَقَوْلِهِ: وَفَرَ الْمَالُ يَفِرُ وُفُورًا فَهُوَ وَافِرٌ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَعْنَى جَزَاءً مَوْفُورًا مُوَفَّرًا.
وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ الْمَعْنَى جَزَاءً مَوْفُورًا وَافِرًا، وانتصب قوله جَزاءً على المصدر.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ الْإِمْهَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ أَنْ يَحْتَنِكَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَشْيَاءَ.
أَوَّلُهَا: قوله: اذْهَبْ [الإسراء: ٦٣] وَمَعْنَاهُ: أَمْهَلْتُكَ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ يُقَالُ أَفَزَّهُ الْخَوْفُ وَاسْتَفَزَّهُ أَيْ أَزْعَجَهُ وَاسْتَخَفَّهُ، / وصوته دعاؤه إلى معصية الله
(١) هذا الوجه يتعارض مع نص الآية الكريمة وهي قول الله تعالى لملائكته المكرمين: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ [سورة الحجر: ٢٩، ٣٠]. فالآية تنص على أن الأمر بالسجود والسجود كان قبل الوسوسة ولو أن الوسوسة كانت قبل السجود، لترتب عليه أن يكون الملائكة كلهم أجمعون قد سجدوا لآدم بعد المعصية وهو أمر لا يليق ولا يتصور فانتفى هذا الوجه.


الصفحة التالية
Icon