اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجِبُ الِافْتِخَارَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ الْفَقِيرُ غَنِيًّا وَالْغَنِيُّ فَقِيرًا، أَمَّا الَّذِي يَجِبُ/ حُصُولُ الْمُفَاخِرَةِ بِهِ فَطَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ حَاصِلَةٌ لِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ فَقَالَ:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَيْ مَثَلَ حَالِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِحَالِ رَجُلَيْنِ كَانَا أَخَوَيْنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ اسْمُهُ بَرَاطُوسَ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذَا وَقِيلَ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصَّافَّاتِ: ٥١] وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمَا ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ فَاشْتَرَى الْكَافِرُ أَرْضًا فَقَالَ الْمُؤْمِنُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ أَرْضًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ بَنَى أَخُوهُ دَارَا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرِي مِنْكَ دَارَا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَ أَخُوهُ امْرَأَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ اللَّهُمَّ إِنِّي جَعَلْتُ أَلْفًا صَدَاقًا لِلْحُورِ الْعِينِ ثُمَّ اشْتَرَى أَخُوهُ خَدَمًا وَضِيَاعًا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْوِلْدَانَ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ حَاجَةٌ فَجَلَسَ لِأَخِيهِ عَلَى طَرِيقِهِ فَمَرَّ بِهِ فِي حَشَمِهِ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَطَرَدَهُ وَوَبَّخَهُ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ الْجَنَّةَ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا جَنَّةً وَسُمِّيَ الْبُسْتَانُ جَنَّةً لِاسْتِتَارِ مَا يَسْتَتِرُ فِيهَا بِظِلِّ الْأَشْجَارِ وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ، وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أَيْ وَجَعَلْنَا النَّخْلَ مُحِيطًا بِالْجَنَّتَيْنِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: ٧٥] أَيْ وَاقِفِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ مُحِيطِينَ بِهِ، وَالْحِفَافُ جَانِبُ الشَّيْءِ وَالْأَحِفَّةُ جَمْعٌ فَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ حَفَّ بِهِ الْقَوْمُ أَيْ صَارُوا فِي أَحِفَّتِهِ وَهِيَ جَوَانِبُهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُ لَحَظَاتٌ فِي حَفَافَيْ سَرِيرِهِ | إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ |