المسألة السَّادِسَةُ: وَصَفَ اللَّه تَعَالَى الزَّلْزَلَةَ بِالْعَظِيمِ وَلَا عَظِيمَ أَعْظَمُ مِمَّا عَظَّمَهُ اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَوْمَ تَرَوْنَها
فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِتَذْهَلُ أَيْ تَذْهَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالضَّمِيرُ فِي تَرَوْنَهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الزَّلْزَلَةِ وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّاعَةِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا، وَالْأَقْرَبُ رُجُوعُهُ إِلَى الزَّلْزَلَةِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَهْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أُمُورًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
أَيْ تُذْهِلُهَا الزَّلْزَلَةُ وَالذُّهُولُ الذَّهَابُ عَنِ الْأَمْرِ مَعَ دَهْشَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ مُرْضِعَةٍ دُونَ مُرْضِعٍ؟ قُلْتُ الْمُرْضِعَةُ هِيَ الَّتِي فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ وَهِيَ مُلْقِمَةٌ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ وَالْمُرْضِعُ شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ، فَقِيلَ مُرْضِعَةٌ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا نَزَعَتْهُ مِنْ فِيهِ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ، وَقَوْلُهُ: عَمَّا أَرْضَعَتْ
أَيْ عَنْ إِرْضَاعِهَا أَوْ عَنِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ وَهُوَ الطِّفْلُ فَتَكُونُ مَا بِمَعْنَى مَنْ»
عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تُسْقِطُ وَلَدَهَا لِتَمَامٍ أَوْ لِغَيْرِ تَمَامٍ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ الْبَعْثِ، قَالَ الْحَسَنُ: تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ وَأَلْقَتِ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا لِغَيْرِ تَمَامٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا أَوْ مُرْضِعَةً تُبْعَثُ حَامِلًا أَوْ مُرْضِعَةً تَضَعُ حَمْلَهَا مِنَ الْفَزَعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذُهُولِ الْمُرْضِعَةِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ كَمَا قَدْ تَأَوَّلَ قَوْلُهُ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: ١٧]، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قُرِئَ (وَتُرَى) بِالضَّمِّ تَقُولُ أُرِيتُكَ قَائِمًا أَوْ رَأَيْتُكَ قَائِمًا وَالنَّاسَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، أَمَّا النَّصْبُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَأَنَّثَهُ على تأويل الجماعة، وقرئ (سكرى) و (سكارى)، وَهُوَ نَظِيرُ جَوْعَى وَعَطْشَى فِي جَوْعَانَ وَعَطْشَانَ، سَكَارَى وَسُكَارَى نَحْوُ كَسَالَى وَعُجَالَى، وَعَنِ الْأَعْمَشِ:
سَكْرَى وَسُكْرَى بِالضَّمِّ وَهُوَ غَرِيبٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَعْنَى وَتَرَاهُمْ سُكَارَى عَلَى التَّشْبِيهِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَكِنْ مَا أَرْهَقَهُمْ مِنْ هَوْلِ عَذَابِ اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَطَيَّرَ تَمْيِيزَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَنَرَاهُمْ سُكَارَى مِنَ الْخَوْفِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ، فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ أَوَّلًا (تَرَوْنَ) ثُمَّ قِيلَ (تَرَى) عَلَى الْإِفْرَادِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَوَّلًا عُلِّقَتْ بِالزَّلْزَلَةِ، فَجُعِلَ النَّاسُ جَمِيعًا رَائِينَ لَهَا، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ آخِرًا بِكَوْنِ النَّاسِ عَلَى حَالٍ مِنَ السُّكْرِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَائِيًا لِسَائِرِهِمْ.
المسألة الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ أَتَقُولُونَ إِنَّ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ لِأَهْلِ النَّارِ خَاصَّةً؟ قُلْنَا قَالَ قَوْمٌ إِنَّ الْفَزَعَ الْأَكْبَرَ وَغَيْرَهُ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُحْشَرُونَ وَهُمْ آمِنُونَ. وَقِيلَ بَلْ يَحْصُلُ لِلْكُلِّ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حق.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣ الى ٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)

(١) هو من باب التغليب لكثرة عدد غير العقلاء على العقلاء في الحقيقة، وبذلك يشمل الأناسي وغيرهم من الحيوانات.


الصفحة التالية
Icon