وَالْأَخَوَاتُ، فَعَمَّ بِالنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ وَفِي الْأَكْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَذِنَ تَعَالَى فِي هَذَا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَمْنَعُونَ قَرَابَاتِهِمْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ حَضَرُوا أَوْ غَابُوا، فَجَازَ أَنْ يُرَخِّصَ فِي ذَلِكَ، قُلْنَا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى لَأَنَّ غَيْرَهُمْ كَهُمْ فِي ذَلِكَ الثَّانِي:
قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى مِنْ قَبْلُ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَظَرَهُ هُنَاكَ، قَالَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى أَهْلِ الْبُيُوتِ فَقَالَ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: ٢٧] وَفِي بُيُوتِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، بَلْ أَمَرَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْإِبَاحَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا إِثْبَاتُ الْإِبَاحَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ بِأَكْلِ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَالْعَادَةُ كَالْإِذْنِ فِي ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَصَّهُمُ اللَّه بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ فِي الْأَغْلَبِ تُوجَدُ فِيهِمْ وَلِذَلِكَ ضَمَّ إِلَيْهِمُ الصَّدِيقَ، وَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَجْلِ حُصُولِ الرِّضَا فِيهَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ الْإِنْسَانِ طَعَامَهُ فِي بَيْتِهِ؟ وَجَوَابُهُ الْمُرَادُ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِكُمْ وَعِيَالِكُمْ أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَرْأَةِ كَبَيْتِ الزَّوْجِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرَادَ بُيُوتَ أَوْلَادِهِمْ فَنَسَبَ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ إِلَى الْآبَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُ وَالِدِهِ وَمَالُهُ كَمَالِهِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَّدَ الْأَقَارِبَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ هُوَ الْقَرَابَةُ كَانَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ أَوْلَى وَثَانِيهَا: بُيُوتُ الْآبَاءِ وَثَالِثُهَا: بُيُوتُ الْأُمَّهَاتِ وَرَابِعُهَا: بُيُوتُ الْإِخْوَانِ وَخَامِسُهَا: بُيُوتُ الْأَخَوَاتِ وَسَادِسُهَا: بُيُوتُ الْأَعْمَامِ وَسَابِعُهَا: بُيُوتُ الْعَمَّاتِ وَثَامِنُهَا: بُيُوتُ الْأَخْوَالِ وَتَاسِعُهَا: بُيُوتُ الْخَالَاتِ وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وَقُرِئَ مِفْتَاحَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَكِيلُ الرَّجُلِ وَقَيِّمُهُ فِي ضَيْعَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ، لَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ/ ضَيْعَتِهِ، وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ مَاشِيَتِهِ، وَمِلْكُ الْمَفَاتِحِ كَوْنُهَا فِي يَدِهِ وَفِي حِفْظِهِ الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ: يُرِيدُ الزَّمْنَى الَّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ لِلْغُزَاةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بُيُوتُ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ قَالَ الْفَضْلُ الْمَفَاتِحُ وَاحِدُهَا مَفْتَحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَوَاحِدُ الْمَفَاتِيحِ مِفْتَحٌ بِالْكَسْرِ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: أَوْ صَدِيقِكُمْ وَالْمَعْنَى أَوْ بُيُوتِ أَصْدِقَائِكُمْ، وَالصَّدِيقُ يكون واحدا وجمعا، وكذلك الخليط والقطين والعدو وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ وَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ أَصْدِقَائِهِ وَقَدْ (أَخْرَجُوا) «١» سِلَالًا مِنْ تَحْتِ سَرِيرِهِ فِيهَا الْخَبِيصُ وَأَطَايِبُ الْأَطْعِمَةِ وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَيْهَا يَأْكُلُونَ، فَتَهَلَّلَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ سُرُورًا وَضَحِكَ وَقَالَ هَكَذَا وَجَدْنَاهُمْ يُرِيدُ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الصَّدِيقُ أَكْثَرُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ بَلْ بِالْأَصْدِقَاءِ، فقالوا مالنا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، وَحُكِيَ أَنَّ أَخًا لِلرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ فِي اللَّه دَخَلَ منزله في حال غيبة فَانْبَسَطَ إِلَى جَارِيَتِهِ حَتَّى قَدَّمَتْ إِلَيْهِ مَا أَكَلَ، فَلَمَّا عَادَ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَلِسُرُورِهِ بِذَلِكَ قال إن صدقت فأنت حرة.

(١) في الكشاف (استلوا) ٣/ ٧٧ ط. دار الفكر.


الصفحة التالية
Icon