المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ التَّغَيُّظُ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَسْمُوعًا، فَكَيْفَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّغَيُّظَ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ فَإِنَّهُ قَدْ يُسْمَعُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الصَّوْتِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ غَضَبَ الْأَمِيرِ عَلَى فُلَانٍ إِذَا رَأَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْمَحَبَّةِ فكذا هاهنا، وَالْمَعْنَى سَمِعُوا لَهَا صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الْمُتَغَيِّظِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَثَانِيهَا: الْمَعْنَى عَلِمُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَسَمِعُوا لَهَا زَفِيرًا وَهَذَا قَوْلُ قُطْرُبٍ، وهو كقول الشاعر: مقلدا سَيْفًا وَرُمْحًا وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ تَغَيُّظُ الْخَزَنَةِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا وَتُرْعَدُ فَرَائِصُهُ حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلسَّعِيرِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْكُفَّارِ حِينَمَا يكونون بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يُلْقَوْنَ فِيهَا، نَعُوذُ باللَّه مِنْهُ بِمَا لَا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي ضَيِّقاً قِرَاءَتَانِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ: نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الضِّيقِ أُمُورٌ،
قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَضِيقُ عَلَى الْكَافِرِ كَضِيقِ الزُّجِّ عَلَى الرُّمْحِ» وَسُئِلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ»
قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَسْفَلُونَ يَرْفَعُهُمُ اللَّهِيبُ، وَالْأَعْلَوْنَ يَخْفِضُهُمُ الدَّاخِلُونَ فَيَزْدَحِمُونَ فِي تِلْكَ الْأَبْوَابِ الضَّيِّقَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْكَرْبُ مَعَ الضِّيقِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ مَعَ السَّعَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّه الْجَنَّةَ بِأَنَّ عرضها السموات وَالْأَرْضُ،
وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ «إِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْقُصُورِ وَالْجِنَانِ كَذَا وَكَذَا»
وَلَقَدْ جَمَعَ اللَّه عَلَى أَهْلِ النَّارِ أَنْوَاعَ (الْبَلَاءِ حَيْثُ ضَمَّ إِلَى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الضِّيقَ) «١».
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ إِنَّ أَهْلَ النَّارِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَالضِّيقِ الشَّدِيدِ، يَكُونُونَ مُقَرَّنِينَ فِي السَّلَاسِلِ قُرِنَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ وَقِيلَ يُقْرَنُ مَعَ كُلِّ كَافِرٍ شَيْطَانُهُ فِي سِلْسِلَةٍ، وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْأَصْفَادُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عن أهل النار أنهم حين ما يُشَاهِدُونَ هَذَا النوع مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ دَعَوْا ثبورا، والثبور الهلاك، ودعاؤهم/ أن يقولوا ووا ثبوراه، أَيْ يَقُولُوا يَا ثُبُورُ هَذَا حِينُكَ وَزَمَانُكَ،
وَرَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا: «أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ فَيَضَعُهَا عَلَى جَانِبَيْهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ ذُرِّيَّتُهُ وَهُوَ يَقُولُ يَا ثُبُورَاهْ وَيُنَادَوْنَ يَا ثُبُورَهُمْ حَتَّى يَرِدُوا النَّارَ».
أَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَوْلٌ، وَمَعْنَى وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً، أَنَّكُمْ وَقَعْتُمْ فِيمَا لَيْسَ ثُبُورُكُمْ مِنْهُ وَاحِدًا، إِنَّمَا هُوَ ثُبُورٌ كَثِيرٌ، إِمَّا لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ وَأَلْوَانٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ثُبُورٌ لِشِدَّتِهِ وَفَظَاعَتِهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بُدِّلُوا غَيْرَهَا، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ دَائِمٌ خَالِصٌ عَنِ الشَّوْبِ فَلَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا ثُبُورٌ، أَوْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَجِدُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَوْلِ نَوْعًا مِنَ الْخِفَّةِ، فَإِنَّ الْمُعَذَّبَ إِذَا صَاحَ وَبَكَى وَجَدَ بِسَبَبِهِ نَوْعًا مِنَ الْخِفَّةِ فَيُزْجَرُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَيُخْبَرُونَ بِأَنَّ هَذَا الثُّبُورَ سَيَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ لِيَزْدَادَ حُزْنُهُمْ وَغَمُّهُمْ نَعُوذُ باللَّه مِنْهُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ نَزَلَ هذا كله

(١) في الكشاف (التضييق والإرهاق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا) ٣/ ٨٤ ط. دار الفكر.


الصفحة التالية
Icon