اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] وَلِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَعْبُودِينَ لَمَّا بَرَّءُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَحَالُوا ذَلِكَ الضَّلَالَ عَلَيْهِمْ صَارَ تَبَرُّؤُ الْمَعْبُودِينَ عَنْهُمْ أَشَدَّ فِي حَسْرَتِهِمْ وَحَيْرَتِهِمْ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ تَعَالَى: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ ضَلَّ عَنِ السَّبِيلِ، الْجَوَابُ: الْأَصْلُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي التَّفْرِيطِ وَقِلَّةِ الِاحْتِيَاطِ، يُقَالُ ضَلَّ السَّبِيلَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى جَوَابَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْهُمْ فَقَدْ تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنِ الْإِضْلَالِ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْلِيسَ وَحِزْبِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِسُبْحَانَكَ لِيَدُلُّوا عَلَى أَنَّهُمُ الْمُسَبِّحُونَ (الْمُقَدِّسُونَ الْمُؤْمِنُونَ) «١» بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحَالِهِمْ أَنْ يُضِلُّوا عِبَادَهُ وَثَالِثُهَا: قَصَدُوا بِهِ تَنْزِيهَهُ عَنِ الْأَنْدَادِ، سَوَاءً كَانَ وَثَنًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا وَرَابِعُهَا:
قَصَدُوا تَنْزِيهَهُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ اسْتِفَادَةَ عِلْمٍ أَوْ إِيذَاءَ مَنْ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْجُرْمِ، بَلْ إِنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُمْ تَقْرِيعًا لِلْكُفَّارِ وَتَوْبِيخًا لَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ أَنْ نَتَّخِذَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِرَفْعِ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، قَالَ الزَّجَّاجُ أَخْطَأَ مَنْ قَرَأَ أَنْ نُتَّخَذَ بِضَمِّ النُّونِ لِأَنَّ (مِنْ) إِنَّمَا تَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي الْأَسْمَاءِ إِذَا كَانَ مَفْعُولًا أَوَّلًا وَلَا تَدْخُلُ عَلَى مَفْعُولِ الْحَالِ تَقُولُ مَا اتَّخَذْتُ مِنْ أَحَدٍ وَلِيًّا، وَلَا يَجُوزُ مَا اتَّخَذْتُ أَحَدًا مِنْ وَلِيٍّ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» اتَّخَذَ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذت وَلِيًّا، وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِكَ اتَّخَذَ فُلَانًا وَلِيًّا، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاءِ: ١٢٥] وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ مِنْ أَوْلِياءَ، وَالْأَصْلُ أَنْ نَتَّخِذَ أَوْلِيَاءَ فَزِيدَتْ مِنْ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَالْأَوَّلُ مَا بُنِيَ لَهُ الْفِعْلُ، وَالثَّانِي مِنْ/ أَوْلِياءَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ لَا نَتَّخِذُ بَعْضَ أَوْلِيَاءَ وَتَنْكِيرُ أَوْلِيَاءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ مَخْصُوصُونَ وَهُمُ الْجِنُّ وَالْأَصْنَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَقْوَى، أَنَّ الْمَعْنَى إِذَا كُنَّا لَا نَرَى أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ فَكَيْفَ نَدْعُو غَيْرَنَا إِلَى ذَلِكَ وَثَانِيهَا: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَكُونَ أَمْثَالَ الشَّيَاطِينِ فِي تَوَلِّيهِمُ الْكُفَّارَ كَمَا يُوَلِّيهِمُ الْكُفَّارُ، قَالَ تَعَالَى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ [النِّسَاءِ: ٧٦] يُرِيدُ الْكَفَرَةَ، وَقَالَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ وَثَالِثُهَا: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِ رِضَاكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ، أَيْ لَمَّا عَلِمْنَا أَنَّكَ لَا تَرْضَى بِهَذَا مَا فَعَلْنَاهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامُهُ وَرَابِعُهَا: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِنَّهُمْ عَبِيدُكَ، فَلَا يَنْبَغِي لِعَبِيدِكَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ إِذْنِكَ وَلِيًّا وَلَا حَبِيبًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ عَبْدٌ عَبْدًا آخَرَ إِلَهًا لِنَفْسِهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْإِشْكَالُ زَائِلٌ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي أَنْ يَتَّخِذَهُمْ غَيْرُهُمْ أَوْلِيَاءَ، قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّا لَا نَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ نَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا وَسَادِسُهَا: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لَا يَصِحُّ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مِنَ الْعَابِدِينَ، فَكَيْفَ يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين.

(١) في الكشاف (المتقدسون الموسومون) ٣/ ٨٦ ط. دار الفكر.


الصفحة التالية
Icon