[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]

أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ جَهْلَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ اللَّه تَعَالَى وَفَسَادِ طَرِيقِهِمْ فِي ذَلِكَ ذكره بَعْدَهُ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ.
النوع الْأَوَّلُ: الِاسْتِدْلَالُ بِحَالِ الظِّلِّ فِي زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ وَتَغَيُّرِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ يَعْنِي الْعِلْمَ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فَالْمَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الظِّلِّ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ وَإِنْ كَانَ تَخْرِيجُ لَفْظِهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ أَفْصَحَ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، فَالْمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ وَهَذَا أَوْلَى وَذَلِكَ أَنَّ الظِّلَّ إِذَا جَعَلْنَاهُ مِنَ الْمُبْصَرَاتِ فَتَأْثِيرُ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَمْدِيدِهِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ مُتَغَيِّرٍ جَائِزٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الوجه.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَسَبِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى بِالظِّلِّ، وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَنَبُّهُهُمْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَمَكُّنُهُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: النَّاسُ أَكْثَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْكَلَامُ الْمُلَخَّصُ يَرْجِعُ إِلَى وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الظِّلَّ هُوَ الْأَمْرُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الضَّوْءِ الْخَالِصِ وَبَيْنَ الظُّلْمَةِ الْخَالِصَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ ظُهُورِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكَذَا الْكَيْفِيَّاتُ الْحَاصِلَةُ دَاخِلَ السَّقْفِ وَأَفْنِيَةِ الْجُدْرَانِ وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَطْيَبُ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ، وَأَمَّا الضَّوْءُ الْخَالِصُ وَهُوَ الْكَيْفِيَّةُ الْفَائِضَةُ مِنَ الشَّمْسِ فَهِيَ لِقُوَّتِهَا تَبْهَرُ الْحِسَّ الْبَصَرِيَّ وَتُفِيدُ السُّخُونَةَ الْقَوِيَّةَ وَهِيَ مُؤْذِيَةٌ، فَإِذَنْ أَطْيَبُ الْأَحْوَالِ هُوَ الظِّلُّ وَلِذَلِكَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِهِ فَقَالَ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الْوَاقِعَةِ: ٣٠] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَنَافِعِ الْجَلِيلَةِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاظِرَ إِلَى الْجِسْمِ الْمُلَوَّنِ وَقْتَ الظِّلِّ كَأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ شَيْئًا سِوَى الْجِسْمِ وَسِوَى اللَّوْنِ، وَنَقُولُ الظِّلُّ لَيْسَ أَمْرًا ثَالِثًا، وَلَا يُعْرَفُ بِهِ إِلَّا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَوَقَعَ ضوؤها عَلَى الْجِسْمِ زَالَ ذَلِكَ الظِّلُّ فَلَوْلَا الشَّمْسُ وَوُقُوعُ ضَوْئِهَا عَلَى الْأَجْرَامِ لَمَا عُرِفَ أَنَّ لِلظِّلِّ وُجُودًا وَمَاهِيَّةً لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا، فَلَوْلَا الشَّمْسُ لَمَا عُرِفَ الظِّلُّ، وَلَوْلَا الظُّلْمَةُ لَمَا عُرِفَ النُّورُ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا طَلَعَ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ وَزَالَ الظِّلُّ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ أَنَّ الظِّلَّ كَيْفِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِسْمِ وَاللَّوْنِ، فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أَيْ خَلَقْنَا الظِّلَّ أَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ ثُمَّ إِنَّا هَدَيْنَا الْعُقُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ بِأَنْ أَطْلَعْنَا الشَّمْسَ فَكَانَتِ الشَّمْسُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ أَيْ أَزَلْنَا الظِّلَّ لَا دَفْعَةً بَلْ يَسِيرًا يَسِيرًا فَإِنَّ كُلَّمَا ازداد


الصفحة التالية
Icon