بِالِاخْتِلَاطِ، وَأَيْضًا فَلْيُنْتَفَعْ بِذَلِكَ الْحَاجِزِ، وَأَيْضًا الْمُؤْمِنُ فِي قَلْبِهِ بَحْرَانِ بَحْرُ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ وَبَحْرُ الطُّغْيَانِ وَالشَّهْوَةِ وَهُوَ بِتَوْفِيقِهِ جَعَلَ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا لِكَيْ لَا يُفْسَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ [الرَّحِمَنِ: ١٩، ٢٠] قَالَ عِنْدَ عَدَمِ الْبَغْيِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحِمَنِ: ٢٢] فَعِنْدَ عَدَمِ الْبَغْيِ فِي الْقَلْبِ يَخْرُجُ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ بِالشُّكْرِ، فَإِنْ قِيلَ وَلِمَ جَعَلَ الْبَحْرَ مِلْحًا؟ قُلْنَا لَوْلَا مُلُوحَتُهُ لَأَجَنَ «١» وَانْتَشَرَ فَسَادُ أُجُونَتِهِ فِي الْأَرْضِ وَأَحْدَثَ الْوَبَاءَ الْعَامَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِصَاصَ الْبَحْرِ بِجَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ دُونَ جَانِبٍ أَمْرٌ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْبَحْرَ يَنْتَقِلُ فِي مُدَدٍ لَا تَضْبُطُهَا التَّوَارِيخُ الْمَنْقُولَةُ مِنْ قَرْنٍ إِلَى قَرْنٍ لِأَنَّ اسْتِمْدَادَ الْبَحْرِ فِي الْأَكْثَرِ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالْأَنْهَارُ تَسْتَمِدُّ فِي الْأَكْثَرِ مِنَ الْعُيُونِ، وَأَمَّا مِيَاهُ السَّمَاءِ فَإِنَّ حُدُوثَهَا فِي فَصْلٍ بِعَيْنِهِ دُونَ فَصْلٍ، ثُمَّ لَا الْعُيُونُ وَلَا مِيَاهُ السَّمَاءِ يَجِبُ أَنْ تَتَشَابَهَ أَحْوَالُهَا فِي بِقَاعٍ وَاحِدَةٍ بِأَعْيَانِهَا تَشَابُهًا مُسْتَمِرًّا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُيُونِ يَغُورُ، وَكَثِيرًا مَا تَقْحَطُ السَّمَاءُ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ نُضُوبِ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ فَيَعْرِضُ بِسَبَبِ ذَلِكَ نُضُوبُ الْبِحَارِ، وَإِذَا حَدَثَتِ الْعُيُونُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ حَدَثَتِ الْأَنْهَارُ هُنَاكَ فَحَصَلَتِ الْبِحَارُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ الْجَلِيلَةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ عَلَى عَظِيمِ جَهْلِهِمْ بِالذَّهَابِ عَنْ هَذَا التَّفَكُّرِ.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٢]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢)
النوع الثَّالِثُ- مَا يَتَعَلَّقُ بِاحْتِيَاجِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ سبحانه اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الضَّرُورَةُ الْحَالَةُ الْمُحْوِجَةُ إِلَى الِالْتِجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ افْتِعَالٌ مِنْهَا: يُقَالُ اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ مُضْطَرٌّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الَّذِي أَحْوَجَهُ مَرَضٌ أَوْ فَقْرٌ أَوْ نَازِلَةٌ مِنْ نَوَازِلِ الدَّهْرِ إِلَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَعَنِ السُّدِّيِّ: الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ، وَقِيلَ الْمُذْنِبُ إِذَا اسْتَغْفَرَ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ عَمَّ الْمُضْطَرِّينَ بِقَوْلِهِ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَكَمْ مِنْ مُضْطَرٍّ يَدْعُو فَلَا يُجَابُ؟ جَوَابُهُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ لَا يُفِيدُ/ الْعُمُومَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ فَقَطْ، وَالْحُكْمُ الْمُثْبِتُ لِلْمَاهِيَّةِ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ ثُبُوتُهُ فِي فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالِاسْتِجَابَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَسْتَجِيبُ فِي الْحَالِ وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي شَرَائِطَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكْشِفُ السُّوءَ فَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلِاسْتِجَابَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى كَشْفِ مَا دَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ فَقْرٍ إِلَى غِنًى وَمَرَضٍ إِلَى صِحَّةٍ وَضِيقٍ إِلَى سَعَةٍ إِلَّا الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَعْجَزُ وَالْقَاهِرُ الَّذِي لَا يُنَازَعُ وَثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ:
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ فَالْمُرَادُ تَوَارُثُهُمْ سُكْنَاهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَأَرَادَ بِالْخِلَافَةِ الْمِلْكَ وَالتَّسَلُّطَ، وَقُرِئَ يَذَّكَّرُونَ بِالْيَاءِ مَعَ الْإِدْغَامِ وَبِالتَّاءِ مَعَ الْإِدْغَامِ وَبِالْحَذْفِ وَمَا مَزِيدَةٌ أَيْ يَذَّكَّرُونَ تَذَكُّرًا قَلِيلًا، وَالْمَعْنَى نَفْيُ التَّذَكُّرِ وَالْقِلَّةُ تستعمل في معنى النفي.

(١) أجن الماء: صار آجنا أي تغير لونه أو طعمه أو ريحه وفسد. [.....]


الصفحة التالية
Icon