(ذَانٍ) «١»، قَوْلُهُ: بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ حُجَّتَانِ نَيِّرَتَانِ عَلَى صِدْقِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ لِقَاءِ فِرْعَوْنَ حَتَّى عَرَفَ مَا الَّذِي يُظْهِرُهُ عِنْدَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص:
٣٣] قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ ظُهُورِ الْبُرْهَانَيْنِ هُنَاكَ مَنْ دَعَاهُ إِلَى رِسَالَتِهِ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ، إِذِ الْمُعْجِزَاتُ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى الرُّسُلِ فِي حَالِ الْإِرْسَالِ لَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ لِكَيْ يَسْتَدِلَّ بِهَا غَيْرُهُمْ عَلَى الرِّسَالَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ مِنْ حِكْمَةٍ وَلَا حِكْمَةَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَا الْغَيْرُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، وأما كونه لا حكمة هاهنا فَلَا نُسَلِّمُ، فَلَعَلَّ هُنَاكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ سِوَى ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَطَابِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعَ موسى عليه السلام أحد.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [القصص: ٣٢] تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنْ يَذْهَبَ مُوسَى بِهَذَيْنَ الْبُرْهَانَيْنِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَا يُقَوِّي قَلْبَهُ وَيُزِيلُ خَوْفَهُ فَقَالَ:
رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً لِأَنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ حُبْسَةٌ، إِمَّا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ وَضَعَ الجمرة في فيه عند ما نَتَفَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الرِّدْءُ اسْمُ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ، فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِهِ، كَمَا أَنَّ الدِّفْءَ اسْمٌ لِمَا يُدْفَأُ بِهِ، يُقَالُ رَدَأْتُ الْحَائِطَ أَرْدَؤُهُ إِذَا دَعَمْتَهُ بِخَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قرأ نافع (ردا) بِغَيْرِ هَمْزٍ وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (يُصَدِّقُنِي) بِرَفْعِ الْقَافِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ بِجَزْمِ الْقَافِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، فَمَنْ رَفَعَ فَالتَّقْدِيرُ رِدْءًا مُصَدِّقًا لِي، وَمَنْ جَزَمَ كَانَ عَلَى مَعْنَى الْجَزَاءِ، يَعْنِي إِنْ أَرْسَلْتَهُ صَدَّقْنِي وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَمَ: ٥، ٦] بِجَزْمِ الثَّاءِ مِنْ يَرِثُنِي. وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ بعض شيوخه ردءا كيما يصدقني.

(١) في الكشاف (ذلك).


الصفحة التالية
Icon