ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ فَالْمُحَقِّقُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ نَظَرُهُ عَلَى مَا يُوجَدُ بَلْ إِلَى مَنْ يُوجِدُ وَهُوَ اللَّهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ تَبَدُّلُ حَالٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَهُ الْفَرَحُ الدَّائِمُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَرْتَبَةُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ الْمُحَقِّقِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٨]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرُّومِ: ٣٣] وَلَا أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى حَالَةِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُدَوْكَرِ الْمُتَسَلِّسِ «١» يَعْبُدُ اللَّهَ إِذَا كَانَ فِي الْخَوَانِقِ وَالرِّبَاطَات لِلرَّغِيفِ وَالزُّبْدِيَّةِ وَإِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، بِقَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، فِي حَالَةِ بَسْطِ الرِّزْقِ وَقَدْرِهِ عَلَيْهِ، نَظَرُهُ عَلَى اللَّهِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ لِيَحْصُلَ الْإِرْشَادُ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ قِسْمَانِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الْإِنْسَانُ فِي الْإِحْسَانِ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا بَسَطَ الرِّزْقَ لَا يَنْقُصُ بِالْإِنْفَاقِ، وَإِذَا قَدَرَ لَا يَزْدَادُ بِالْإِمْسَاكِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَخْصِيصِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ فِي الصَّدَقَاتِ فَنَقُولُ أَرَادَ هَاهُنَا بَيَانَ مَنْ يَجِبِ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ مَالٌ سَوَاءٌ كَانَ زَكَوِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا الشَّفَقَةُ الْعَامَّةُ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ يَجِبُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْسِنِ مَالٌ زَائِدٌ، أَمَّا الْقَرِيبُ فَتَجِبُ نَفَقَتُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ كَعَقَارٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحُلْ عليه الحول والمسكين كذلك فإن مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ إِذَا بَقِيَ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ حَتَّى بَلَغَ الشِّدَّةَ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ مَقْدِرَةٌ دَفْعُ حَاجَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَكَذَلِكَ مَنِ انْقَطَعَ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ آخِرِ دَابَّةٍ يُمْكِنُهُ بِهَا إِيصَالُهُ إِلَى مَأْمَنٍ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَالْفَقِيرُ دَاخِلٌ فِي الْمِسْكِينِ لِأَنَّ مَنْ أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ شَيْئًا يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ أَيْضًا، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ رَأَيْتَهُمْ لَا يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمْ/ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي الْعَامِلِ وَالْمُكَاتِبِ وَالْمُؤَلَّفَةِ وَالْمَدْيُونِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: الْمِسْكِينُ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مَا فَنَقُولُ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْمِسْكِينِ عَلَى مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ جَائِزٌ فَيَكُونُ الْإِطْلَاقُ هَاهُنَا بِذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالْفَقِيرُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقَدُّمِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ دَفْعُ حَاجَةِ الْقَرِيبِ وَاجِبًا سَوَاءٌ كَانَ فِي شِدَّةٍ وَمَخْمَصَةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ دَفْعُ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي شِدَّةٍ، وَلَمَّا كَانَ