اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَسْأَلُ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ:
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ عَرَفُوا بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَعَرَفُوا صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ بِالضَّرُورَةِ فَيَقُولُ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهُ وَتَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَشْفَعُ؟ أَيْنَ هُوَ لِيَنْصُرَكُمْ وَيُخَلِّصَكُمْ مِنْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَقُولُهُ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: ١١٩] وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ حَقَّ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمُ الرُّؤَسَاءُ الدُّعَاةُ إِلَى الضَّلَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الشَّيَاطِينُ قَوْلُهُ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا هَؤُلَاءِ مُبْتَدَأٌ وَالَّذِينَ أَغْوَيْنَا صِفَتُهُ وَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُوفِ مَحْذُوفٌ وَأَغْوَيْنَاهُمُ الْخَبَرُ وَالْكَافُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَغْوَيْنَاهُمْ فَغَوَوْا غَيًّا مِثْلَ مَا غَوَيْنَا وَالْمُرَادُ كَمَا أَنَّ غَيَّنَا بِاخْتِيَارِنَا فَكَذَا غَيُّهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ يَعْنِي أَنَّ إِغْوَاءَنَا لَهُمْ مَا أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْغَوَايَةِ بَلْ كَانُوا مُخْتَارِينَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] وَقَالَ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحِجْرِ: ٤٢] فَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاتِّبَاعَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِ إِلْجَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مِنْهُمْ وَمِنْ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَةِ: ١٦٦] وَأَيْضًا فَلَا يَمْتَنِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكائِيَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ وَالشَّيَاطِينَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فَقَدْ صَيَّرُوهُمْ لِمَكَانِ الطَّاعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِلَهَنَا هَؤُلَاءِ مَا عَبَدُونَا إِنَّمَا عَبَدُوا أَهْوَاءَهُمُ الْفَاسِدَةَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ لَهُمْ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَوْ دَعَوْهُمْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إِجَابَةٌ فِي النُّصْرَةِ وَأَنَّ الْعَذَابَ ثَابِتٌ فِيهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، وَفِي ذِكْرِهِ رَدْعٌ وَزَجْرٌ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّ جَوَابَ لَوْ مَحْذُوفٌ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي الْمَتْبُوعُ وَالتَّابِعُ يَرَوْنَ الْعَذَابَ وَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا مَا أَبْصَرُوهُ فِي الْآخِرَةِ وَثَانِيهَا: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي الدُّنْيَا لَعَلِمُوا أَنَّ الْعَذَابَ حَقٌّ وَثَالِثُهَا:
وَدُّوا حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَهْتَدُونَ وَرَابِعُهَا: لَوْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ لَدَفَعُوا بِهِ الْعَذَابَ وَخَامِسُهَا: قَدْ آنَ لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٠١] وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مَحْذُوفٍ وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تعالى إذا خاطبهم بقوله: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر وَالدُّوَارِ وَيَصِيرُونَ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا فَقَالَ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ شَيْئًا أَمَّا لَمَّا صَارُوا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ شَيْئًا لَا جَرَمَ مَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عن الشركاء


الصفحة التالية
Icon