ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الْأَحْزابُ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ هم الذين تحزبوا على أنيائهم فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَكَذَلِكَ نَفْعَلُ بِقَوْمِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: ١١] أَنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ، أَيْ مِنْ جِنْسِ الْأَحْزَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَامَلَ الْأَحْزَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالْإِهْلَاكِ كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا شَدِيدًا لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ الْأَحْزابُ مُبَالَغَةٌ لِوَصْفِهِمْ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الرَّجُلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَالَ أُولَئِكَ الْأَحْزَابِ مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِمْ لَمَّا كَانَ هُوَ الْهَلَاكَ وَالْبَوَارَ، فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الْمَسَاكِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ إِنْ صَدَّقُوا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فَهُوَ تَحْذِيرٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَا فَهُوَ تَحْذِيرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ آثَارَ هَذِهِ الْوَقَائِعِ بَاقِيَةٌ وَهُوَ يُفِيدُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ فيحذرون، ولأن ذكر ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيرِ يُوجِبُ الْحَذَرَ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أَيْ كُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَمَّا كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، لَا جَرَمَ نَزَلَ الْعِقَابُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ زَجْرُ السَّامِعِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَإِنْ تَأَخَّرَ هَلَاكُهُمْ فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ فَقَالَ: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصَّيْحَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يكون المراد عذابا يفجؤهم وَيَجِيئُهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا يُقَالُ صَاحَ الزَّمَانُ بِهِمْ إِذَا هَلَكُوا قَالَ الشَّاعِرُ:
صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكٍ صَيْحَةً | خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ |
وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآية: «يأمر الله إِسْرَافِيلُ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، قَالَ فَيُمِدُّهَا وَيُطَوِّلُهَا»
وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ: مَا لَها مِنْ فَواقٍ ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا لَهَا سُكُونٌ وَالثَّانِي: مَا لَهَا رُجُوعٌ، وَالْمَعْنَى مَا تَسْكُنُ تِلْكَ الصَّيْحَةُ وَلَا تَرْجِعُ إِلَى السُّكُونِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ بَقِيَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنَّهُ لَا يُفِيقُ مِنْهُ وَلَا يستفيق، والله أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ.