وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْحَاضِرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَاضِي، فَإِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ وَيُتَوَقَّعُ حُدُوثُهُ يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا، فَإِذَا وُجِدَ يَصِيرُ حَاضِرًا، فَإِذَا عُدِمَ وَفَنِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مَاضِيًا، وَأَيْضًا الْمُسْتَقْبَلُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ يَصِيرُ أَقْرَبَ حُصُولًا وَالْمَاضِي فِي كُلِّ حَالَةٍ أَبْعَدُ حُصُولًا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبُ مِنْ غَدِ | وَلَا زَالَ مَا تَخْشَاهُ أَبْعَدُ مِنْ أَمْسِ |
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ فَازِعًا مِنَ الْأَهْوَالِ وَمِنَ الْفَزَعِ الشَّدِيدِ، بَلْ يَكُونُ آمِنَ الْقَلْبِ سَاكِنَ الصَّدْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا يُفِيدُ نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فُصِّلَتْ: ٢٥] وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ تَأْثِيرَاتٍ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، بِالْإِلْهَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمَقَامَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَمَا أَنَّ لِلشَّيَاطِينِ تَأْثِيرَاتٍ فِي الْأَرْوَاحِ بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ فِيهَا وَتَخْيِيلِ الْأَبَاطِيلِ إِلَيْهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ أَوْلِيَاءَ لِلْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ حَاصِلٌ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ مَعْلُومَةٍ لِأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدنيا فَهِيَ تَكُونُ بَاقِيَةً فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ الْعَلَائِقَ ذَاتِيَّةٌ لَازِمَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلزَّوَالِ، بَلْ كَأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَقْوَى وَأَبْقَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَهِيَ كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وَالْقَطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْرِ، وَالتَّعَلُّقَاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إِلَى ملكوت السموات»
فَإِذَا زَالَتِ الْعَلَائِقُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَالتَّدْبِيرَاتُ الْبَدَنِيَّةُ، فَقَدْ زَالَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ، فَيَتَّصِلُ الْأَثَرُ بِالْمُؤَثِّرِ، وَالْقَطْرَةُ بِالْبَحْرِ، وَالشُّعْلَةُ بِالشَّمْسِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
ثُمَّ قَالَ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
أَيْ مَا تَتَمَنَّوْنَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا