[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «١» [الزخرف: ٩] بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ، جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: جُزْءٌ بِضَمِّ الزَّايِ وَالْهَمْزَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَأَمَّا حَمْزَةُ فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ جُزًا بِفَتْحِ الزَّايِ بِلَا هَمْزَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُ وَلَدًا، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ جُزْءٌ مِنْهُ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»
وَلِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنَ الْوَالِدِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يَتَرَبَّى ذَلِكَ الْجُزْءُ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شَخْصٌ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَلَدُ الرَّجُلِ جُزْءٌ مِنْهُ وَبَعْضٌ مِنْهُ، / فَقَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً مَعْنَى جَعَلُوا حَكَمُوا وَأَثْبَتُوا وَقَالُوا بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُ جُزْءًا، وَذَلِكَ الْجُزْءُ هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَجَعَلُوا لِعِبَادِهِ مِنْهُ جُزْءًا، أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ حَصَلَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْوَلَدُ، فَكَذَا قَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً مَعْنَاهُ وَأَثْبَتُوا لَهُ جُزْءًا، وَذَلِكَ الْجُزْءُ هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أُخَرَ، فَقَالُوا الْجُزْءُ هُوَ الْأُنْثَى فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَاحْتَجُّوا فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِبَيْتَيْنِ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ | قَدْ تُجْزِئُ الحرة المذكاة أحيانا |
زوجتها من نبات الْأَوْسِ مُجْزِئَةً | لِلْعَوْسَجِ اللَّدْنِ فِي أَبْيَاتِهَا غَزَلُ |
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِثْبَاتَ الولد لله محال،