الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُدِّمَ الْعِلْمُ بِمَنْ ضَلَّ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمُهْتَدِي فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمِنْهَا فِي سُورَةِ: ن وَمِنْهَا فِي السُّورَةِ، لِأَنَّ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا الْمَذْكُورُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُعَانِدُونَ، فَذَكَرَهُمْ أَوَّلًا تَهْدِيدًا لَهُمْ وَتَسْلِيَةً لِقَلْبِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١١٧] وفي غيره قال: بِمَنْ ضَلَّ فَهَلْ عِنْدَكَ فِيهِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِبَحْثٍ عَقْلِيٍّ وَآخَرَ نَقْلِيٍّ: أَمَّا الْعَقْلِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، إِنْ وُجِدَ أَمْسِ عُلِمَ أَنَّهُ وُجِدَ أَمْسِ فِي نَهَارِ أَمْسِ، وَلَيْسَ مِثْلَ عِلْمِنَا حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الشَّيْءُ أَمْسِ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ إِلَّا فِي يَوْمِنَا هَذَا بَلْ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلَا يَتَأَخَّرُ الْوَاقِعُ عَنْ عِلْمِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَمَّا النَّقْلِيُّ: فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِذَا كَانَ مَاضِيًا فَلَا تَقُولُ: أَنَا ضَارِبٌ زَيْدًا أَمْسِ، وَالْوَاجِبُ إِنْ كُنْتَ تَنْصِبُ أَنْ تَقُولَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَإِنْ كُنْتَ تَسْتَعْمِلُ اسْمَ الْفَاعِلِ فَالْوَاجِبُ الْإِضَافَةُ تَقُولُ: ضَارِبُ زَيْدٍ أَمْسِ أَنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا غَدًا ضَارِبٌ زَيْدًا وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ فَلَا تَجَدُّدَ لَهُ فِي [غَيْرِ] الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْحَالِ فَهُوَ عَدَمٌ وَضَعْفٌ عَنْ أَنْ يَعْمَلَ، وَأَمَّا الْحَالُ وَمَا يُتَوَقَّعُ فَلَهُ وُجُودٌ فَيُمْكِنُ إِعْمَالُهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ ضَلَّ كَانَ الْأَمْرُ مَاضِيًا وَعِلْمُهُ تَعَلَّقَ بِهِ وَقْتَ وُجُودِهِ فَعُلِمَ، وَقَوْلُهُ أَعْلَمُ بِمَعْنَى عَالِمٍ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: عَالِمٌ بِمَنْ ضَلَّ فَلَوْ تَرَكَ الْبَاءَ لَكَانَ إِعْمَالًا لِلْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَلَمَّا قَالَ: يَضِلُّ كَانَ يَعْلَمُ الضَّلَالَ عِنْدَ الْوُقُوعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ سَيَضِلُّ لَكِنْ لِلْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَلُّقٌ آخَرُ سَيُوجَدُ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِكَوْنِ الضَّلَالِ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْأَزَلِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ فُلَانًا ضَلَّ فِي الْأَزَلِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: عُلِمَ فِي الْأَزَلِ، فَإِنَّهُ سَيَضِلُّ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضِلُّ فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَعْلَمُ مَسْأَلَتَنَا مِنْ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ أَعْلَمُ بِمَسْأَلَتِنَا مِنْ عَمْرٍو، وَلِهَذَا قَالَتِ النُّحَاةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ يَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ وَقَالُوا:
أَعْلَمُ لِلتَّفْضِيلِ لَا يُبْنَى إِلَّا مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ غَيْرِ مُتَعَدٍّ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا يُرَدُّ إِلَى لَازِمٍ. وَقَوْلُنَا: عَلِمَ كَأَنَّهُ مِنْ بَابِ عَلُمَ بِالضَّمِّ وَكَذَا فِي التَّعَجُّبِ إِذَا قُلْنَا: مَا أَعْلَمَهُ بِكَذَا كَأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ لَازِمٍ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدَ أَجَبْتُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ قَوْلَهُ:
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ مَعْنَاهُ عَالِمٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي أَوْصَافِ اللَّه فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَلَا عَالِمَ مِثْلُهُ فَيَكُونُ أَعْلَمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: هُوَ بِمَعْنَى عَالِمٍ لَا غَيْرَ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَالَ هَاهُنَا: بِمَنْ ضَلَّ وَقَالَ هُنَاكَ: يَضِلُّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ/ هَاهُنَا حَصَلَ الضَّلَالُ فِي الْمَاضِي وَتَأَكَّدَ حَيْثُ حَصَلَ يَأْسُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِرَ بِالْإِعْرَاضِ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١١٦].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ بِمَعْنَى إِنْ ضَلَلْتَ يَعْلَمُكَ اللَّه فَكَانَ الضَّلَالُ غَيْرَ حَاصِلٍ فِيهِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْ صِيغَةَ الْمَاضِي.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ فِي الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِهِ وَلَمْ يَقُلْ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى سَبِيلِهِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ عَنِ السَّبِيلِ هُوَ الضَّلَالُ وَهُوَ كَافٍ فِي الضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي السَّبِيلِ، وَأَمَّا بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا ضَلَالَ أَوْ لِأَنَّ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ سَوَاءٌ سَلَكَ سَبِيلًا أَوْ [لَمْ] يَسْلُكْ وَأَمَّا مَنِ اهْتَدَى إِلَى سَبِيلٍ فَلَا وُصُولَ إِنْ لَمْ يَسْلُكْهُ، وَيُصَحِّحُ هَذَا أَنَّ مَنْ ضَلَّ فِي غَيْرِ سَبِيلِهِ فَهُوَ ضَالٌّ وَمَنِ اهْتَدَى إِلَيْهَا لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا إِلَّا إِذَا اهْتَدَى إِلَى كُلِّ