الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قال هاهنا: وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما [الْأَعْرَافِ: ١٩] فَعَطَفَ كُلا عَلَى قَوْلِهِ: اسْكُنْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالْوَاوِ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِالْفَاءِ فَمَا الْحِكْمَةُ؟ وَالْجَوَابُ: كُلُّ فِعْلٍ عُطِفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَكَانَ الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزء عُطِفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً [الْبَقَرَةِ: ٥٨] فَعَطَفَ كُلُوا عَلَى ادْخُلُوا بِالْفَاءِ لَمَّا كَانَ وُجُودُ الْأَكْلِ مِنْهَا مُتَعَلِّقًا بِدُخُولِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنْ أُدْخِلْتُمُوهَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا، فَالدُّخُولُ مُوصِّلٌ إِلَى الْأَكْلِ، وَالْأَكْلُ مُتَعَلِّقٌ وُجُودُهُ بِوُجُودِهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ [الْأَعْرَافِ: ١٦١]، فَعَطَفَ كُلُوا عَلَى قَوْلِهِ اسْكُنُوا بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّ اسْكُنُوا مِنَ السُّكْنَى وَهِيَ الْمُقَامُ مَعَ طُولِ اللُّبْثِ وَالْأَكْلُ لَا يَخْتَصُّ وُجُودُهُ بِوُجُودِهِ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بُسْتَانًا قَدْ يَأْكُلُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقُ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ تَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ وَجَبَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اسْكُنْ يُقَالُ لِمَنْ دَخَلَ مَكَانًا فَيُرَادُ مِنْهُ الْزَمِ الْمَكَانَ الَّذِي دَخَلْتَهُ وَلَا تَنْتَقِلْ عَنْهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ اسْكُنْ هَذَا الْمَكَانَ يَعْنِي ادْخُلْهُ وَاسْكُنْ فِيهِ، فَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ اللُّبْثَ وَالِاسْتِقْرَارَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَا جَرَمَ وَرَدَ بِلَفْظِ الْوَاوِ. وَفِي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل: أن دخل الْجَنَّةَ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَا جَرَمَ وَرَدَ بِلَفْظِ الْفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ نَهْيٌ وَلَكِنْ فِيهِ بَحْثَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ فيه خلاف، فقال قائلون: هذه الصيغة النهي/ التَّنْزِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَرَدَتْ تَارَةً فِي التَّنْزِيهِ وَأُخْرَى فِي التَّحْرِيمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ التَّرْكِ عَلَى جَانِبِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيهِ، لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ فِيهِ كَانَ ثَابِتًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، فَإِذَا ضَمَمْنَا مَدْلُولَ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ صَارَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى التَّنْزِيهِ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى بِهَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَرْجِعُ حَاصِلُ مَعْصِيَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ كَانَ أَفْضَى إِلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا النَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٢] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الْأَنْعَامِ: ١٥٢] فَكَمَا أَنَّ هَذَا لِلتَّحْرِيمِ فَكَذَا الْأَوَّلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٣٥] مَعْنَاهُ إِنْ أَكَلْتُمَا مِنْهَا فَقَدْ ظَلَمْتُمَا أَنْفُسَكُمَا أَلَا تَرَاهُمَا لَمَّا أَكَلَا قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣]. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا النَّهْيَ لَوْ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمَا اسْتَحَقَّ آدَمُ بِفِعْلِهِ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَمَا وَجَبَتِ التَّوْبَةُ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ نَقُولُ: إِنَّ النَّهْيَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلتَّنْزِيهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ لِدَلَالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ فَتَظْلِمَا أَنْفُسَكُمَا بِفِعْلِ مَا الْأَوْلَى بِكُمَا تَرْكُهُ لِأَنَّكُمَا إِذَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ أُخْرِجْتُمَا مِنَ الجنة التي لا تظمئان فِيهَا وَلَا تَجُوعَانِ وَلَا تَضْحَيَانِ وَلَا تَعْرَيَانِ إِلَى مَوْضِعٍ لَيْسَ لَكُمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ لِهَذَا السَّبَبِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.