الصَّغِيرَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَالِ وَالشَّرَفِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَفْحَشَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، [الْأَحْزَابِ: ٣٠] وَالْمُحْصَنُ يُرْجَمُ وَغَيْرُهُ يُحَدُّ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَقَلَّ حَالًا مِنَ الْأُمَّةِ فَذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْفِسْقِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الْحُجُرَاتِ: ٦] لَكِنَّهُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا كَانَ أَقَلَّ حَالًا مِنْ عُدُولِ الْأُمَّةِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَّا أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَرَعَ هَذَا الْحُكْمَ وَذَاكَ، وَأَيْضًا فَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَاهِدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣]. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ يَجِبُ زَجْرُهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ إِيذَاؤُهُ مُحَرَّمًا لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٧]. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الاقتداء به فيها لقوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: ٣١] فَيُفْضِي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ وَهُوَ محال، وإذا ثبت ذلك حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَقْبَحَ مِنْ نَبِيٍّ رَفَعَ اللَّهَ دَرَجَتَهُ وَائْتَمَنَهُ عَلَى وَحْيِهِ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ يَسْمَعُ رَبَّهُ يُنَادِيهِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لِلَذَّتِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى نَهْيِ رَبِّهِ وَلَا مُنْزَجِرٍ بِوَعِيدِهِ. هَذَا مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِالضَّرُورَةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الْجِنِّ: ٢٣] وَلَا اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ لِقَوْلِهِ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨] وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ وَلَا لِلْعَذَابِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَا صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ لَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤٤].
وَقَالَ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هُودٍ: ٨٨]، فَمَا لا يلق بِوَاحِدٍ مِنْ وُعَّاظِ الْأُمَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٠]، وَلَفْظُ الْخَيْرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا يَنْبَغِي وَتَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا فَاعِلِينَ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَتَارِكِينَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ.
وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: ٤٧]، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الاستثناء فيقال: فلاناً مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ إِلَّا فِي الْفِعْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَخْيَارًا فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. وَقَالَ:
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: ٧٥]، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ/ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣]. وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا [الْبَقَرَةِ: ١٣٠]. وَقَالَ فِي مُوسَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الْأَعْرَافِ: ١٤٤]. وَقَالَ: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: ٤٥- ٤٧]. فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِالِاصْطِفَاءِ وَالْخَيْرِيَّةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. عَاشِرُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْلِيسَ قَوْلَهُ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ


الصفحة التالية
Icon