وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١] وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْعَاصِيَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّصَّ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُعَاقَبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنِّ: ٢٣] فَلَا مَعْنَى لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا ذَلِكَ، الثَّانِي: أَنَّ الْعَاصِيَ اسْمُ ذَمٍّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إِلَّا صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، الْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّمَسُّكِ بِقِصَّةِ آدَمَ أَنَّهُ كَانَ غَاوِيًا لقوله تعالى فَغَوى وَالْغَيُّ ضِدُّ الرُّشْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٦]، فَجَعَلَ الْغَيَّ مُقَابِلًا لِلرُّشْدِ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَائِبٌ وَالتَّائِبُ مُذْنِبٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَائِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] وَقَالَ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ [طه: ١٢٢] وَإِنَّمَا قُلْنَا: التَّائِبُ مُذْنِبٌ لِأَنَّ التَّائِبَ هُوَ النَّادِمُ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ، وَالنَّادِمُ عَلَى فِعْلِ الذنب مخبر عن كونه فاعلًا للذنب، فَإِنْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ فَهُوَ مُذْنِبٌ بِالْكَذِبِ، وَإِنْ صَدَقَ فِيهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٢]، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [الْأَعْرَافِ: ١٩]، وَارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَيْنُ الذَّنْبِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: سَمَّاهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٣٥] وَهُوَ سَمَّى نَفْسَهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَالظَّالِمُ مَلْعُونٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨] وَمَنِ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ كَانَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَوْلَا مَغْفِرَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِلَّا لَكَانَ خَاسِرًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٣]، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِزْلَالِهِ جَزَاءً عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، ثُمَّ قَالُوا:
هَبْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْكَبِيرَةِ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قَاطِعًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الشَّيْءِ/ لَكِنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْوُجُوهِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى الشَّيْءِ. وَالْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ عَنِ الْوُجُوهِ السَّبْعَةِ عِنْدَنَا أَنْ نَقُولَ: كَلَامُكُمْ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ أَتَيْتُمْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَالَ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إن آدم عليه السلام حالما صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الزَّلَّةُ مَا كَانَ نَبِيًّا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ من هذه الآيات.
ولنذكر هاهنا كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الزَّلَّةِ لِيَظْهَرَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى من قوله: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [البقرة: ٣٦] فَنَقُولُ لِنَفْرِضْ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ الْفِعْلُ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا أَوْ حَالَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وَمَثَّلُوهُ بِالصَّائِمِ يَشْتَغِلُ بِأَمْرٍ يَسْتَغْرِقُهُ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ سَاهِيًا عَنِ الصَّوْمِ وَيَأْكُلُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ السَّهْوِ [لَا] عَنْ قَصْدٍ، لَا يُقَالُ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ، وَقَوْلَهُ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠- ٢١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا نَسِيَ النَّهْيَ حَالَ الْإِقْدَامِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَمَّدَ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا خَرَجَ آدَمُ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الجنة، فحسسته فَنَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَفِرَارًا مِنِّي، فَقَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا كَانَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنِّي وَعِزَّتِكَ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كَاذِبًا، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ مِنْهَا ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا.
الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لَمَا عُوتِبَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا


الصفحة التالية
Icon