قَدْ نَسِيَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥]، وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:
كَانَتِ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَسِيَهَا صَارَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي أَنْ لَا يَصِيرَ الذَّنْبُ كَبِيرًا أَوْ يُقَالَ: كَانَتْ ظَنِّيَّةً إِلَّا أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى خَطَأِ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَكَمَا أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَخْصُوصٌ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي بَابِ التَّشْدِيدَاتِ وَالتَّخْفِيفَاتِ بِمَا لَا يَثْبُتُ في حق الأمة، فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وَنَهَاهُمَا مَعًا فَظَنَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ أَنْ يَقْرَبَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَأَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقْرَبا نَهْيٌ لَهُمَا عَلَى الْجَمْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ النَّهْيِ حَالَ الِاجْتِمَاعِ حُصُولُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، فَلَعَلَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَيْفَ تَمَكَّنَ إِبْلِيسُ مِنْ وَسْوَسَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ خَارِجَ الْجَنَّةِ وَآدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَوْلُ الْقُصَّاصِ وَهُوَ الَّذِي رَوَوْهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِبْلِيسُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنَعَتْهُ الْخَزَنَةُ فَأَتَى الْحَيَّةَ وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ كَأَنَّهَا الْبُخْتِيَّةُ، وَهِيَ كَأَحْسَنِ الدَّوَابِّ بعد ما عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَمَا قَبِلَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا فَابْتَلَعَتْهُ الْحَيَّةُ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ خُفْيَةً مِنَ الْخَزَنَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَيَّةُ الْجَنَّةَ خَرَجَ إِبْلِيسُ مِنْ فَمِهَا وَاشْتَغَلَ بِالْوَسْوَسَةِ. فَلَا جَرَمَ لُعِنَتِ الْحَيَّةُ وَسَقَطَتْ قَوَائِمُهَا وَصَارَتْ تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا، وَجُعِلَ رِزْقُهَا فِي التُّرَابِ، وَصَارَتْ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الدُّخُولِ فِي فَمِ الْحَيَّةِ فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَيَّةً ثُمَّ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْحَيَّةِ فَلِمَ عُوقِبَتِ الْحَيَّةُ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ وَلَا مُكَلَّفَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي صُورَةِ دَابَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقَلُّ فَسَادًا مِنَ الْأَوَّلِ.
وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَعَلَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَإِبْلِيسَ كان بقرب الباب ويوسوس إليهما، ورابعها: وهو قَوْلُ الْحَسَنِ: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَأَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَلَامٌ خَفِيٌّ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ لَا يُمْكِنُ إِيصَالُهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ بَاشَرَ خِطَابَهُمَا أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ أَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا عَلَى لِسَانِ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢١]، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الْأَعْرَافِ: ٢٢]. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا يَعْرِفَانِهِ وَيَعْرِفَانِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، فَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَقْبَلَا قَوْلَهُ وَأَنْ يَلْتَفِتَا إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُبَاشِرُ للوسوسة من بعض أتباع إبليس. بقي هاهنا سُؤَالَانِ، السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: / أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَضَافَ هَذَا الْإِزْلَالَ إِلَى إِبْلِيسَ فَلِمَ عَاتَبَهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ؟ قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا أَنَّهُمَا عِنْدَ وَسْوَسَتِهِ أَتَيَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: ٦]. فَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢]، هَذَا مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَمَعَ التَّسَاوِي يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ مَصْدَرًا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَالدَّاعِي عِبَارَةٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عَنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ أو


الصفحة التالية
Icon