كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا بُدَّ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَمِنَ النَّدَمِ عَلَى مَا سَبَقَ وَمِنَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ وَمِنَ الْإِشْفَاقِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّرْكِ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُتْرَكْ لَكَانَ فَاعِلًا لَهُ فَلَا يَكُونُ تَائِبًا، وَأَمَّا النَّدَمُ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْدَمْ لَكَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ فَاعِلًا لَهُ وَالرَّاضِي بِالشَّيْءِ قَدْ يَفْعَلُهُ وَالْفَاعِلُ للشيء لا يكون تائباً، وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ فَلِأَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ وَالْعَزْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ/ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا الْإِشْفَاقُ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْبَةِ كَمَا لَزِمَهُ فَيَكُونُ خَائِفًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزُّمَرِ: ٩]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا»،
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَبْيَنُ وَأَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ ضَرَرًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ صَدَرَ مِنْهُ يُوجِبُ تَأَلُّمَ الْقَلْبِ وَذَلِكَ التَّأَلُّمُ يُوجِبُ إِرَادَةَ التَّرْكِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَإِرَادَةَ تَلَافِي مَا حَصَلَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي وَإِذَا كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُرَتَّبًا عَلَى الْبَعْضِ تَرَتُّبًا ضَرُورِيًّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْوُسْعِ لَيْسَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَلَيْسَ لِلِاخْتِيَارِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَحْصِيلُ الْعِلْمِ لَيْسَ أَيْضًا فِي الْوُسْعِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمَجْهُولَاتِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْلُومَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْهُولِ، فَتِلْكَ الْعُلُومُ الْحَاضِرَةُ الْمُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى اكْتِسَابِ ذَلِكَ الْمَجْهُولِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمَجْهُولِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَلْزِمَةً. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ تَرَتُّبُ الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُتَوَسَّلِ بِهِ ضَرُورِيًّا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَكُنِ اسْتِنْتَاجُ الْمَطْلُوبِ الْمَجْهُولِ عَنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الْحَاضِرَةِ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْقَرِيبَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِحَالٍ يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا فِي الذِّهْنِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ مُنْتِجَةً لِتِلْكَ النَّتِيجَةِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي الذِّهْنِ إِلَّا أَنَّ كَيْفِيَّةَ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ غَيْرُ حَاضِرَةٍ فِي الذِّهْنِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ الْعِلْمُ بِتِلْكَ النَّتِيجَةِ لَا مَحَالَةَ. قُلْنَا: الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْكَسْبِيَّاتِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَسْبِيَّاتِ كَانَ الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، فَإِمَّا أَنْ يُفْضِيَ إِلَى التَّسَلْسُلِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يُفْضِيَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْ لَوَازِمِهِ فَيَعُودَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: سَأَلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ نَفْسَهُ فَقَالَ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً فَكَيْفَ تَلْزَمُ التَّوْبَةُ؟
وَأَجَابَ بِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّهَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَصَى لَمْ يُحَدَّ «١» فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ مُخْتَارٌ «٢» وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَادِمًا أَوْ مُصِرًّا لَكِنَّ الْإِصْرَارَ قَبِيحٌ فَلَا تَتِمُّ مُفَارَقَتُهُ لِهَذَا الْقَبِيحِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، فَهِيَ إِذَنْ لَازِمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً وَسَوَاءٌ ذَكَرَهَا وَقَدْ تَابَ عَنْهَا مِنْ قَبْلُ أَوْ لَمْ يَتُبْ. أَمَّا أَبُو هَاشِمٍ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ أَنْ يَخْلُوَ الْعَاصِي مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِصْرَارِ وَيَقُولُ: لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِهَذَا الْوَجْهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِإِحْدَى خِلَالٍ، فَإِمَّا أَنْ تَجِبَ لِأَنَّ بِالصَّغِيرَةِ قَدْ نَقَصَ ثَوَابُهُمْ فَيَعُودُ ذَلِكَ النُّقْصَانُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّوْبَةَ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ التَّرْكِ، فَإِذَا كَانَ التَّرْكُ وَاجِبًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ التوبة مع عدم الإمكان، وربما قال:

(١) هكذا في الأصل ولعل الصواب «لم يعد».
(٢) معنى العبارة على ما في الأصل غير مفهوم ولعل الصواب «إلا هو مختار».


الصفحة التالية
Icon