تُشْبِهُ النُّحَاسَ تَنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَالْمَمْلَكَةُ الرَّابِعَةُ تَكُونُ قُوَّتُهَا مِثْلَ الْحَدِيدِ، وَأَمَّا الرِّجْلُ الَّتِي كَانَ بَعْضُهَا مِنْ خَزَفٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْمَمْلَكَةِ يَكُونُ عَزِيزًا وَبَعْضَهَا يَكُونُ ذَلِيلًا وَتَكُونُ كَلِمَةُ الْمُلْكِ مُتَفَرِّقَةً وَيُقِيمُ إِلَهُ السَّمَاءِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مَمْلَكَةً أَبَدِيَّةً لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَزُولُ وَإِنَّهَا تُزِيلُ جَمِيعَ الْمَمَالِكِ وَسُلْطَانُهَا يُبْطِلُ جَمِيعَ السَّلَاطِينِ وَتَقُومُ هِيَ إِلَى الدَّهْرِ الدَّاهِرِ فَهَذَا تَفْسِيرُ الْحَجَرِ الَّذِي رَأَيْتَ أَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ جَبَلٍ بِلَا قَاطِعٍ حَتَّى دَقَّ الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ وَالْخَزَفَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. فَهَذِهِ هِيَ الْبِشَارَاتُ الْوَارِدَةُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِمَبْعَثِ رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْعَهْدُ هُوَ مَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى الْمُطِيعِ وَصَحَّ وَصْفُ ذَلِكَ الْوُجُوبِ بِالْعَهْدِ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ مِنَ الْعَهْدِ بِالْإِيجَابِ بِالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ النِّعَمِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ السَّالِفَةَ تُوجِبُ عَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَدَاءُ الْعِبَادَاتِ أَدَاءً لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوَاجِبٍ آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ أَدَاءَ التَّكَالِيفِ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بَلِ التَّفْسِيرُ الْحَقُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ بِالثَّوَابِ وَكُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يُوجَدَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ لَانْقَلَبَ خَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ آكَدَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْعَهْدُ هُوَ الْأَمْرُ وَالْعَبْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: ١٤٢]، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّهْبَةَ هِيَ الْخَوْفُ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْخَوْفُ مِنْهُ تَعَالَى هُوَ الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ وَقَدْ يُقَالُ فِي الْمُكَلَّفِ إِنَّهُ خَائِفٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ مَعَ الظَّنِّ، أَمَّا الْعِلْمُ فَإِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَاحْتَرَزَ عَنْ كُلِّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّ خَوْفَهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَعَلَى هَذَا نَصِفُ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ. قَالَ تَعَالَى:
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْلِ: ٥٠] وَأَمَّا الظَّنُّ فَإِذَا لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَاتِ وَاحْتَرَزَ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَوْفُهُ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ كَانَ أَمْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ وَبِالْعَكْسِ.
رُوِيَ: «أَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنِّي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَمْنَيْنِ مَنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا خَوَّفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ/ الْقِيَامَةِ»
وَقَالَ الْعَارِفُونَ: الْخَوْفُ خَوْفَانِ خَوْفُ الْعِقَابِ وَخَوْفُ الْجَلَالِ، وَالْأَوَّلُ: نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي: نَصِيبُ أَهْلِ الْقَلْبِ، وَالْأَوَّلُ: يَزُولُ، وَالثَّانِي: لَا يَزُولُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُعَظِّمُ الْمَعْصِيَةَ، وَدَلَالَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ الْعَهْدُ يُعَظِّمُ الْمُخَالَفَةَ وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ كَمَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْعَرَبِ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَجِبُ أَنْ لَا يَخَافَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَكَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْخَوْفِ فَكَذَا فِي الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ إِذْ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ لَوَجَبَ أَنْ يُخَافَ مِنْهُ كَمَا يُخَافُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَرْهَبَ إِلَّا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخَافَ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَخَافَ