اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْحَلِفِ فِي التَّأْكِيدِ، يَقُولُ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ وَأَشْهَدُ باللَّه، وَأَعْزِمُ وَأَعْزِمُ باللَّه فِي مَوْضِعِ أُقْسِمُ وَأُولِي: وَبِهِ اسْتَشْهَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ أَشْهَدُ يَمِينٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلْمُنَافِقِينَ فِي اسْتِخْفَافِهِمْ بِالْأَيْمَانِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالُوا نَشْهَدُ، وَلَمْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ باللَّه كَمَا قُلْتُمْ؟ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ فِي الْمُتَعَارَفِ إِنَّمَا يَكُونُ باللَّه، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: نَشْهَدُ عَنْ قَوْلِهِ باللَّه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ أَعْرَضُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَقِيلَ:
صَدُّوا، أَيْ صَرَفُوا وَمَنَعُوا الضَّعَفَةَ عَنِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساءَ أَيْ بِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ حَيْثُ آثَرُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَأَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَضْمَرُوا مُشَاكَلَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ مُقَاتِلٌ:
ذَلِكَ الْكَذِبُ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ كَفَرُوا فِي السِّرِّ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: والله يشهد إنهم لكاذبون وَقَوْلُهُ:
فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لَا يَتَدَبَّرُونَ، وَلَا يَسْتَدِلُّونَ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْكُفْرِ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْقُرْآنَ، وَصِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَنَّهُ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَفْعَالَ الْكَفَرَةِ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يعملون، فلم قلنا هُنَا؟
نَقُولُ: إِنَّ أَفْعَالَهُمْ مَقْرُونَةٌ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي جَعَلُوهَا جُنَّةً، أَيْ سُتْرَةً لِأَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ عَنْ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا الْمُسْلِمُونَ كَمَا مَرَّ.
الثَّانِي: الْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا عَلَى الْكُفْرِ الثَّابِتِ الدَّائِمِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟
نَقُولُ: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: آمَنُوا نَطَقُوا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَفَعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ظَهَرَ كُفْرُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَثَانِيهَا: آمَنُوا نَطَقُوا بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ كَفَرُوا نَطَقُوا بِالْكُفْرِ عِنْدَ شَيَاطِينِهِمِ اسْتِهْزَاءً بِالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَادَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ.
الثَّالِثُ: الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا طَبَعَ اللَّه عَلَى قُلُوبِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا وَيَسْتَدِلُّوا بِالدَّلَائِلِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا حُجَّةً لَهُمْ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَيَقُولُونَ: إِعْرَاضُنَا عَنِ الْحَقِّ لِغَفْلَتِنَا، وَغَفْلَتُنَا بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبِنَا، فَنَقُولُ: هَذَا الطَّبْعُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِسُوءِ أَفْعَالِهِمْ، وَقَصْدِهِمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى تركهم في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة.
ثم قال تعالى:
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٤ الى ٦]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦)


الصفحة التالية
Icon