الثاني: الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالضَّرُورَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ: فَاتَّقُوا اللَّهَ؟ نَقُولُ: لِلتَّقْوَى دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى هِيَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَوَاقِي هِيَ التَّقْوَى مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ غَيْرُ الشِّرْكِ فَأَهْلُ الْإِيمَانِ إِذَا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشِّرْكِ.
الثَّالِثُ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَقُّ هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يُقَالَ: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ نَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عَلَى مَا جَازَ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْمَاضِي الْمُسْتَقْبَلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى [آل عمران:
٥٥] أَيْ وَإِذْ يَقُولُ اللَّه، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ تَحْدُثُ لَهُمْ بعد إيمانهم.
ثم قال تعالى: مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً.
قَوْلُهُ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّعْظِيمِ لِمَا رَزَقَ اللَّه الْمُؤْمِنَ مِنَ الثواب، وقرئ يُدْخِلْهُ بالياء والنون، وقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً قَالَ الزَّجَّاجُ: رَزَقَهُ اللَّه الْجَنَّةَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَقِيلَ: رِزْقاً أَيْ طَاعَةً فِي الدُّنْيَا وَثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ وَنَظِيرُهُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [الْبَقَرَةِ: ٢٠١].
[سورة الطلاق (٦٥) : آية ١٢]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
قال الكلبي: خلق سبع سموات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِثْلَ الْقُبَّةِ، وَمِنَ الْأَرْضِ/ مِثْلَهُنَّ فِي كَوْنِهَا طِبَاقًا مُتَلَاصِقَةً كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْأَرْضَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ طَبَقَةٌ أَرْضِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَطَبَقَةٌ طِينِيَّةٌ، وَهِيَ غَيْرُ مَحْضَةٍ، وَطَبَقَةٌ مُنْكَشِفَةٌ بَعْضُهَا فِي الْبَحْرِ وَبَعْضُهَا فِي الْبَرِّ وَهِيَ الْمَعْمُورَةُ، وَلَا بَعُدَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ مِنْ كَوْنِهَا سَبْعَةَ أَقَالِيمَ عَلَى حسب سبع سموات، وَسَبْعِ كَوَاكِبَ فِيهَا وَهِيَ السَّيَّارَةُ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ خَوَاصَّ تَظْهَرُ آثَارُ تِلْكَ الْخَوَاصِّ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنْ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي لَا يَأْبَاهَا الْعَقْلُ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْوُجُوهِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْبَاهَا الْعَقْلُ مِثْلَ مَا يقال:
السموات السَّبْعُ أَوَّلُهَا: مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَثَانِيهَا: صَخْرٌ وَثَالِثُهَا: حَدِيدٌ وَرَابِعُهَا: نُحَاسٌ وَخَامِسُهَا: فِضَّةٌ وَسَادِسُهَا:
ذَهَبٌ وَسَابِعُهَا: يَاقُوتٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَغِلَظُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَذَلِكَ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نُقِلَ متواتر [١]، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ واللَّه أَعْلَمُ بِأَنَّهُ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ. فَقَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقُرِئَ مِثْلَهُنَّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى سَبْعَ سَماواتٍ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الابتداء وخبره مِنَ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ قَالَ عَطَاءٌ يُرِيدُ الْوَحْيَ بَيْنَهُنَّ إِلَى خَلْقِهِ فِي كُلِّ أَرْضٍ وَفِي كُلِّ سَمَاءٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْوَحْيَ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بِحَيَاةِ بَعْضٍ وَمَوْتِ بَعْضٍ وَسَلَامَةِ هَذَا وَهَلَاكِ ذَاكَ مثلا وقال