الشَّمْسُ أَجْلَى ظُهُورًا، لِأَنَّ قُوَّةَ الْأَثَرِ وَكَمَالَهُ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمُؤَثِّرِ، فَكَانَ النَّهَارُ يُبْرِزُ الشَّمْسَ وَيَظْهِرُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧] أَيْ لَا يُخْرِجُهَا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ- أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الظُّلْمَةِ، أَوْ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ إِلَى الْأَرْضِ. وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، يَقُولُونَ: أَصْبَحَتْ بَارِدَةً يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء.
[سورة الشمس (٩١) : آية ٤]
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤)
يَعْنِي يَغْشَى اللَّيْلُ الشَّمْسَ فَيُزِيلُ ضَوْءَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّيْلَ يَغْشَى الشَّمْسَ وَيُزِيلُ ضَوْءَهَا حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: النَّهَارُ يُجَلِّيهَا، عَلَى ضِدِّ مَا ذُكِرَ فِي اللَّيْلِ وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَغْشَاهَا لِلشَّمْسِ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا فِي جَلَّاهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّمْسِ حَتَّى يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْفَوَاصِلِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلى هاهنا لِلشَّمْسِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَتْ إِلَّا بِالشَّمْسِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنْ بِحَسَبِ أَوْصَافٍ أَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا: الضَّوْءُ الْحَاصِلُ مِنْهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ. وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكْمُلُ فِيهِ انْتِشَارُ الْحَيَوَانِ وَاضْطِرَابُ النَّاسِ لِلْمَعَاشِ، وَمِنْهَا تُلُوُّ الْقَمَرِ لَهَا وَأَخْذُهُ الضَّوْءَ عَنْهَا، وَمِنْهَا تَكَامُلُ طُلُوعِهَا وَبُرُوزِهَا بِمَجِيءِ النَّهَارِ، وَمِنْهَا وُجُودُ خِلَافِ ذَلِكَ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ قَلِيلًا فِي عَظَمَةِ الشَّمْسِ ثُمَّ شَاهَدَ بِعَيْنِ عَقْلِهِ فِيهَا أَثَرَ الْمَصْنُوعِيَّةِ وَالْمَخْلُوقِيَّةِ مِنَ الْمِقْدَارِ الْمُتَنَاهِي، وَالتَّرَكُّبِ مِنَ الْأَجْزَاءِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، فسبحانه ما أعظم شأنه.
[سورة الشمس (٩١) : آية ٥]
وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥)
فِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ أَنَّ ما هاهنا لَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً لَكَانَ عَطْفُ فَأَلْهَمَها عَلَيْهِ يوجب فساد النظم حق، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا قَسَمًا بِخَالِقِ السَّمَاءِ، لَمَا كَانَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذِكْرِ الشَّمْسِ، فَهُوَ إِشْكَالٌ جَيِّدٌ، وَالَّذِي يَخْطُرُ بِبَالِي فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: أَنَّ أَعْظَمَ الْمَحْسُوسَاتِ هُوَ الشَّمْسُ، فَذَكَرَهَا سُبْحَانَهُ مَعَ أَوْصَافِهَا الْأَرْبَعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَصَفَهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ تَدْبِيرُهُ سُبْحَانَهُ لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلِلْمُرَكَّبَاتِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمُرَكَّبَاتِ بِذِكْرِ أَشْرَفِهَا وَهِيَ النَّفْسُ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَتَوَافَقَ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ عَلَى عَظَمَةِ جِرْمِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَحْتَجُّ الْعَقْلُ السَّاذِجُ بِالشَّمْسِ، بَلْ بِجَمِيعِ السَّمَاوِيَّاتِ وَالْأَرْضِيَّاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ عَلَى إِثْبَاتِ مُبْدِئٍ لَهَا، فَحِينَئِذٍ يَحْظَى العقل هاهنا بِإِدْرَاكِ/ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْحِسُّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ. فَكَانَ ذَلِكَ كَالطَّرِيقِ إِلَى جَذْبِ الْعَقْلِ مِنْ حَضِيضِ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى يَفَاعِ عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيْدَاءِ كِبْرِيَاءِ الصَّمَدِيَّةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَظُمَتْ حَكَمَتُهُ وَكَمُلَتْ كَلِمَتُهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ الشَّمْسَ بِالصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَحُدُوثِ جَمِيعِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالسَّمَاءَ مُتَنَاهِيَةٌ، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ، فَاخْتِصَاصُ الشَّمْسِ وَسَائِرِ السَّمَاوِيَّاتِ بِالْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَكَمَا أَنَّ بَانِيَ الْبَيْتِ يَبْنِيهِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، فَكَذَا مدبر الشمس


الصفحة التالية
Icon